أنواع الصورة الشعرية في خطاب نادية نواصر
تمهيد:
تعد الصورة ركيزة أساسية من ركائز العمل الأدبي، فهي تمثل جوهر الشعر وتعتبر
من أهم وسائل الشاعر في نقل تجربته الشعرية والتعبير عن واقعه، كما عرف مصطلح
الصورة انتشارا واسعا عند البلاغيين والنقاد القدامى والمعاصرين، ويميز الأدب
في الصورة الشعرية مفهومان"مفهوم قديم يقف عند حدود الصورة البلاغية في التشبيه والمجاز والاستعارة
والكناية، ومفهوم حديث يضيف إلى الصورة البلاغية نوعين آخرين هما: الصورة
الذهنية والصورة باعتبارها رمز"[1]، ويعود هذا التنوع في الصورة لأهميتها ومكانتها داخل الخطابالشعري في تجسيد
الرؤى المختلفة للنص"لأن الصورة تركيبة وجدانية تنتمي في جوهرها إلى عالم الوجدان أكثر من
انتمائها إلى عالم الواقع"[2]، فقد تحولت من أداة تعبيرية يلجأ إليها الشاعر خاصة في الشعر العربي الحديث
والمعاصر إلى تمثيل جوهري تميز تجربة الشاعر و رؤاه المختلفة.
أنواع الصورة الشعرية في خطاب نادية نواصر |
لقد توسع مفهوم الصورة فيالعصر الحديث وأصبحت"الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها في سياق بياني
ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة مستخدما طاقات اللغة
وإمكاناتها في الدلالة والتركيب والإيقاع"[3]،فصارت بذلك مصدرا للخلق الدلالي المتنوع داخل النص الشعري، فتقدم للقارئ
ذوقا فنيا من جمال الكلام والأسلوب عن طريق إعمال الذهن والتخييل المنطقي من
خلال تحليل وتفكيك تلك الصور.
أما عن المصادر التي يستشف منها الشاعر هذه الصور فهي متعددة، وأبرزها
الحواس، فالشاعر يعتمد على الإثارة البصرية لتحفيز القارئ خاصة وأن حاسة
البصر أقوى من حاسة السمع والشم، إذ تخرج صورتهما أقل تنوعا ورسوخا
"فالقصيدة لا يجب أن تعتمد في إيصال مغزاها على الأسلوب المجرد، بل عليها
بدلا من ذلك الاعتماد على الصورة الحسية"[4]،كما أن الخيال يلعب دورا كبيرا في تشكيل الصورة باعتباره أبرز عنصر قادر
على تشكيل مدلولات مختلفة داخل الذهن، فالصورة تكون متكاملة إذا ترافقت مع
الحواس الأخرى التي تشكل عملية التصوير، فهي عادة ما تكون نتيجة تلاقح عدة
حواس في تشكيلها، ولهذا
"فالصورة الناجحة هي التي تأتي من تحويل المعاني المجردة إلى هيئات وأشكال
تنتقل بالحواس"[5]، فتجمع هذه العناصر في تشكيل الصورة يجعل من النص صورة موحدة وكاملة أمام
القارئ، ضف إلى ذلك أهمية ووظيفة الخيال في تلك العملية تسهم-عند كولوردج- في
"تحقيق الوحدة والانسجام
داخل العمل الأدبي باعتباره مجموعة من الصور الفنية، وهذه الوحدة هي وحدة
الشعور أو العاطفة التي تهيمن على أجزاء العمل الأدبيوعناصره"[6].
فالصورة الشعرية قد تنوعت وخرجت عن نطاقها المألوف الذي يتميز بالوضوح والواقعية إلى العمق الفني والإبداع التصويري، نتيجة امتزاج الواقع بالخيال خاصة في القصيدة المعاصرة،وبالرغم من اختلاف النقاد حول مصادر الصورة الشعرية إلا أنهم اتفقوا على مدى أهميتها ووظيفتهافي بناء النص الشعري وانسجامه"لأنها تمتلك المقدرة على تجميل البنية اللغوية بما فيها من إيماءات وتلميحات لدلالات مختلفة..."[7].
أما نادية نواصر فقد وظفت في معظم دواوينها العديد من الصور المتنوعة،
سنحاول إماطة اللثام عنها لنستشف وظيفتها الشعرية داخل بعض النصوص الشعرية،
كما سنحاول الكشف عن الرؤية العميقة والأبعاد النفسية والفكرية للشاعرة من
خلال هذه الصور الشعرية.
انواع الصور الشعرية في دواوين نادية نواصر
أولا/ شعرية الصورة المفردة(الجزئية) في خطاب نادية نواصر:
تعد الصورة المفردة ذات أهمية بالغة في التعبير الشعري، فالصور الجزئية
عبارة عن شريحة من القصيدة تحمل في طياتها انعكاسات نفسية ودلالات معنوية،
وتتشكل الصور المفردة عن طريق عدة أساليب تنبثق من وجدان الشاعرة ومرتبطة
بأفكارها وأحاسيسها، لتتلاحم مع الصورة الكلية للنص بغرض تحقيق التفاعل فيما
بينها، وتجعل المتلقي يقف أمام نص مفتوح متعدد القراءات والتفسيرات، فتصنع
للقصيدة شعريتها المفعمة بالإيحاءات والدلالات يكتشفها القارئ من خلال فك
وتحليل شيفرات النص الشعري.
ولهذا يجب أن تتفاعل في النص الصورة الجزئية مع الصورة الكلية ليصنع الشاعر بذلك ميزته الشعرية الخاصة، ويضع بصمته في صميم الإبداع الشعري"فإن انفصلت الصورة الجزئية عن مجموعة الصور الأخرى المكونة للقصيدة فقدت حيويتها وفاعليتها في الصورة العامة، وكلما تساندت معها اكتسبت الخصب والنماء"[8]، فالصورة في الأخير تظل ثمرة النسيج الفني بواسطة لغة الشعر التي تصنع موضوعا لفكرة أو عاطفة أو حالة شعورية كالحزن والفرح، لتقدم للقارئ ذوقا فنيا من جمال الأسلوب والكلام، ومن هذا التذوق يفهم المتلقي قصدية الشاعر عن طريق إعمال الذهن والتخييل المنطقي من خلال تحليله لتلك الصور.
1-شعرية الصورة التشبيهية في خطاب نادية نواصر:
تعد الصورة التشبيهية من الصور والأساليب البيانيةوبها يزداد المعنى رفعة
وشأنا، فالتشبيه جزء من الصورة البلاغية وروح النص الشعري النابضة بالحيوية
الفنية،فهو"نمط سهل يتعامل معه الشعراء كافة بمختلف عصورهم بيد أن الفيصل في تجليه
يكمن في الإتقان أو الابتكار أو الإثارة"[9]، فلا مناص من كونه أبرز الصور في بناء النصوص الشعرية إذ يزيدها إيضاحا وبيانا، ويكسبها تأكيدا وبلاغة، إذ ينتج عنه صورا معبرة
ودقيقة، بالإضافة إلى ما يحمله من أثر جمالي وفني، ولهذا عدّه النقاد
والبلاغيون دليلا على الشاعرية فقد
"رفع النقاد القدامى من قيمته وعدّوه من أشرف كلام العرب وفيه تكون الفطنة
والبراعة ولذا جعلوه دليل على الشاعرية ومقياسا تعرف به البلاغة[10]"، كما عدّه النقاد المحدثون من أهم عناصر الصورة الفنية في تحليل العمل
الأدبي، لأن هذا التوظيف تقتضيه الحالة الشعورية لأي شاعر، وهذه الصورة تقوم
على المقارنة بين شيئين لا لتفضيل أحدهما على الآخر، وإنما لنقل تلك الحالة
الشعورية التي تسيطر على الشاعر"لأن التشبيه سواء أكان بالأداة أم بدونها يقوم على بناء أتنيني متقابل
بين موضوعين يشتركان في صفة واحدة أو أكثر"[11]، ويقوم التشبيه كما هو معروف على أربعة أركان هي: المشبه، المشبه به، أداة
التشبيه ووجه الشبه.
وكغيرها من الشعراء لم تستطع الشاعرة نادية نواصر الاستغناء عن التشبيه
بوصفه عنصرا من عناصر الصورة الشعرية، بل نجدها أحيانا قد أفرطت في توظيفه
سواء على مستوى الديوان ككل أو على مستوى القصيدة الواحدة خاصة في توظيفها
للتشبيه البليغ، أما عن المشبه به فقد كان إما صفات للإنسان أو ظواهر يتصف
بها كالأنثى، الطفل والغريب...أو عنصرا من عناصر الطبيعة كالشمس الإعصار، أو
صفات معنوية وهي الغالبة كالحب، الشوق والوجع، وما نلمسه من تشبيه غالبا ما
يكون يعبر عن الحالة الشعورية النفسية والوجدانية للشاعرة.
تقول الشاعرة في مقطع من قصيدة"يتساقط جلدي إلاك..!"
ولأن حبك استعبدني
أخرجني من أعالي شموخي
أنا الشامخة منذ دهر كصومعة مسجد
في غابة أوراقي وأشعاري
أشعر بك تتسلل عبر جلدي ولحمي
تحتلني كالقلق المزمن[12]
تتوجه الشاعرة في هذا المقطع بخطاب وجداني مشحون بالقلق من خيبة الانكسار،
لقد بني هذا المقطع على خطاب اعتمد على الوصف، باعتبار أن الشاعرة هنا كانت
تصف نفسها قبل أن تصبح آمة لحبيبها الذي أسرها بحبه لها، إذ شبهت نفسها
بصومعة المسجد الشامخة الصامدة والثابتة التي لا تهتز للريح والإعصار قبل أن
تقع في الحب، وقد تم وصف
الشاعرة لحالتها باعتماد الضمير "أنا" وهو موقع المشبه واعتمدت رمز
الصومعة كمشبه به للدلالة على "الصمود والشموخ" على أساس وجه الشبه وقد ربطت
بينهما بأداة التشبيه "الكاف"، وتستمر الشاعرة في ظاهرة الوصف عن طريق
التشبيه، لكن هنا ينتقل المشبه من المتكلم إلى المخاطب لأن الشاعرة أدركت أن هذا المعشوق قد بدأ يحتل كيانها ويتسلل كالدم يسري في العروق، حتى
أصبح هذا الحب قلقا وهما يكتنفها إلى الأبد لأن المرض المزمن لا يفارق صاحبه
حتى الموت، وهكذا صار هذا الحب المزمن المقلق لم يفارق الشاعرة حتى نهاية
القصيدة لتصور لنا هذه الصورة التشبيهية حالتها النفسية والتي تحاول من
خلالها الشاعرة التأثير على المتلقي إذ تقول في المقطع الأخير من النص:
ولأن حبك هذا النبض العاصف
المتربص لهدوئي
يحمل في جحيمه هراوة من التوق
ليدحرجني من أهرام كبريائي[13]
والملاحظ هنا أن وجه الشبه في كلتا الحالتين كان يعتمد على صور حسية اعتمدت
على الجانب المعنوي، لتشكل صورة أكثر فعالية لتوضح للمتلقي الحالة النفسية
التي تكتنفها من بداية القصيدة إلى نهايتها، وكأن الشاعرة كانت في موضع
مقارنة لتبرز لنا الفرق بين غياب الحبيب وبعده، وهذا التباعد بين الطرفين في
الخطاب الشعري هو الذي صنع المشهد لأنه
"كلما كان التباعد بين الشيئين أشد، كان إلىالنفوس أعجب وكانت النفوس له
أطرب"[14].
ولم تستغن الشاعرة عن أداة الشبيه (الكاف) في صورها التشبيهية الأخرى
فهي تستعملها بشكل متوالي في النص الواحد، حيث تقول في قصيدة
يبغونني أنسى صلاتي:
يبغون لي
حبا كحب الآخرين
قلبا كقلب الميتين
حبا يعيش هادئا
بين الصخور[15]
من خلال هذا المقطع تريد الشاعرة أن تعيش حالة من الحب والعشق، فهي ترفض أن
يكون لها حبا جافا وقلبا ميتا كقلب الآخرين، فقد يكون الحب عند البعض مجرد
سبيل للتسلية واللهو وكأنهم أصبحوا موتى لا يحسون ولا يشعرون، بينما الشاعرة
ترفض أن يكون قلبها كهؤلاء الذين شبهت قلوبهم بقلوب الموتى باستخدام أداة
التشبيه الكاف، وتتجلى شعرية التشبيه هنا في إثارة القارئ وجعله يتحسس
خطاب الشاعرة من خلال التشبيهات المتتالية ليحس بألم الشاعرة ومواجعها.
وفي قصيدة أخرى بعنوان "العام يخطو صوبنا" تقول الشاعرة
حب كمثل خطين توازي
ما افترقنا ولا التقينا،
يوما وظلا في،
احتراق حب تضيق
حب طفولي كمثل الطفل،
يلهو بالنوارس والزبد
حب كقلب الطفل،
يلهو في السواحل بالصدف[16]
تبدو الشاعرة في هذا النص الشعري في حيرة وقلق من خلال تساؤلاتها وتعجبها من
هذا الحب المؤرق، حب من طرف واحد جعلها تعيش وسط دوامة مظلمة فهي التي قدمت
قلبها هدية لشخص لم يستحقه يوما، حب قلب سعادتها إلى حزن، فقلباهما مثل خطين
متوازين لن يلتقيا مهما طال الزمن، لم تكتف الشاعرة بهذا التشبيه بل شبهت
حبها لهذا الشخص بحب الطفل للعب، وكأن بها تقول لا بأس سوف أنساه يوما لأنه
مجرد حب طفولي فأنا مجرد طفل صغير يلعب في شاطئ البحر بالصدف ثم ينتهي وقت
اللهو فيرمي بأصدافه للبحر ويرحل.
وظفت الشاعرة في هذا المقطع أداتي تشبيه، في البداية استخدمت النواة الشعرية
"كمثل" والملاحظ هنا أن الشاعرة تريد أن تؤكد للقارئ مدى فشل هذا
الحب، فقد كان من الممكن أن تقول (حب كخطين توازي)، أو تقول (حب مثل خطين
توازي)، لكنها ربطت الأداتين معا من شدة الحزن والألم اللذين صنعهما هذا الحب
الفاشل، وحبها إذن هو المشبه أما عن المشبه به فقد تغير إذ كان في الحالة
الأولى هو "الخطين المتوازيين"، أما في الحالة الثانية فكان المشبه به هو
"الطفل" ثم غيرت أداة التشبيه واستخدمت "الكاف" لربط المشبه بالمشبه به.
وتستمر الشاعرة في إرسال صورها التشبيهية، لنقف عند بعض الصور المتخذة من
التشبيه البليغ، هذا الأخير الذي يشكل ظاهرة بارزة في خطاب الشاعرة، وتبرز
أهمية هذا التشبيه من خلال حذف أداة التشبيه ووجه الشبه.
تقول الشاعرة في قصيدة"ثورة الأنثى":
سيدتي!
يا وردة الشوك البرية
ويا هذا الأرخبيل الناهض
من عمق منا في الروح...
يا وطنا من مطر
ومن أحزان!!
يا عاصفة من ثلج...[17]
يمكن اعتبار هذه الصورة من أبرز الصور الشعرية، لأن الشاعرة حذفت نصف أركان
التشبيه وهي أداة التشبيه ووجه الشبه ليصبح التشبيه بليغا،إذ يستخدمها
الشعراء للمبالغة في قوة التشبيه، لأن الشاعرة هنا غدت هي نفسها وردة الشوك
البرية،هي الأرخبيل، هي العاصفة، وكأن بالشاعرة تصبح هي الطبيعة نفسها
اعتمادا على ما شبهت نفسها به لتشكل لنا بهذه العناصر صورة بليغة ودلالات
عميقة، فالشاعرة من خلال هذه الصور تحاول إثارة المتلقي وشده إلى عالمها من
خلال التشبيهات المتفرقة مع حذفها لأداة التشبيه ووجه الشبه من أجل المساواة
بين المشبه والمشبه به.
تقول في قصيدة "وحدي دخلت في صدى الموال":
يقول لي،
الوطن المعرش،
في دمي..
لا تدخليني،
من صدى الموال،
سيدتي،
فإني مطر..
يعقبه ارتواء الأرض..[18]
الوطن عند الشاعرة من خلال هذه المقطوعة لا يشبه المطر بل هو المطر ذاته،
فحب الوطن في قلب الشاعرة يولد ولا يموت مادام يسري في دمها، وإذا كان المطر
أصله ماء فالماء هو أصل الحياة وبدايتها وبالماء يغسل الدنس وتطيب الجروح
ومادام الوطن مطرا فهو الذي يغسل جروحه ويلملم نفسه بنفسه، فالشاعرة إذا تأمل
بوطن ليس به جروح ولا يعاني آهات وآلاما قد تأتي بها الريح من الشرق أو الغرب
لتزرع الوجع في قلوب أبنائه وتفرق شملهم، وهذا ما تواصل به الشاعرة قصيدتها
هته فتقول:
ها ريحهم هبت..
مضت قد مسها،
وجع البدد
فتفرقوا..
وتحزبوا.
وجع،
وجع،
وجع،[19]
وبالتالي فالتشبيه البليغ الذي أوردته الشاعرة بجعلها للوطن مطرا يحمل في
طياته دلالات عميقة، أكسب النص شعرية رسمت في ذهن المتلقي صورة ذلك الوطن
المجروح الذي ظل يعاني لزمن ليس بالقصير ويحلم بأن تشرق عليه الشمس لتبدد
ظلمته وأحزانه، وبهذا يظل"التشبيه البليغ أسمى درجة من التشبيه الصريح من حيث أنه يسوي بين المشبه
به والمشبه تسوية تامة"[20].
2/شعريةالصورة الإستعارية في خطاب نادية نواصر:
تعتبر الصورة الاستعارية فنا بلاغيا شاع في الشعر قديمه وحديثه، وهي ضرب من
المجاز اللغوي ينم عن انتقال كلمة من بنية معينة إلى بنية لغوية أخرى علاقتها
المشابهة، والاستعارة نوعان؛ تصريحية وهي ما صرح فيها بالمشبه به، المكنية
وهيما حذف منها المشبه به لكن يرمز له بشيء من لوازمه، ويمكن اعتبار هذه
الظاهرة تنطوي تحت ما يسمى بالانزياح التصويري لأنها تعتبر من أحسن الصور
البيانية التي يستخدمها الشاعر، إذ يقوم من خلالها بالخروج عن اللغة العادية
ليكسر المألوف من أجل صناعة صور شعرية تلفت انتباه المتلقي، ويرى الجرجاني أن
الكلام عبارة عن"ضربان ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وضرب أنت لا تصل إلى
الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن بدلالة اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه
في اللغة، ولذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض، ومدار هذا الأمر
على الكناية والاستعارة والتمثيل"[21]، وبالتالي فالاستعارة تكسب النص الشعري لغة جديدة وتلبسه حلة فنية راقية
بالعدول باللغة عن ألفاظها المألوفة وصناعة عالم جديد من الخيال، ويعرفها أبو
هلال العسكري بقوله:"الاستعارة نقل العبارة عن موضعاستعمالها في أصل اللغة إلى غيره، وذلك
الغرض يكون إما بشرح المعنى وفصل الإبانة عنه، أو أكيده، أو المبالغة فيه،
أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ أو تحسين المعرض الذي يبرز فيه"[22].
والملاحظ على الشعراء دائما أنهم يعبرون عن عوالمهم الشعورية عن طريق إعادة
تشكيل العالم الحسي الخارجي وفق تصوراتهم وخيالهم،من خلال صور استعارية تنتج
تصادما بين المقصود الأول للفظة ومدلولها الجديد
"فالمجاز الاستعاري يكسب قيمته الجمالية من قدرته على نقل حالة شعورية
يحياها الأديب، وهذا يتطلب خلق تصورات غير مألوفة في سياق القصيدة أو العمل
النثري الفني"[23]، وبما أن الاستعارة هي جزء من الصور الفنية التي تصنع الجمال الفني
والإبداعي، فإن الشاعرة نادية نواصر قد عبرت بالصور الاستعارية في الكثير بل
في أغلب قصائدها، وسنحاول الكشف عنها وعن مدى تحقيقها للشعرية داخل النص
الإبداعي، وكيف عبرت بها الشاعرة عما يختلج داخلها من أحاسيس ومشاعر حزينة
أحيانا فيما صنعت بها الفرح والحبور في أحيانا أخرى.
نقرأ للشاعرةفي قصيدة الأغاني المطهمة بكلام الأحبة:
أيها الليل مزق جلابيبك الحالكة
كي تميط الظلام..
عن لحظة رفرف الحلم،
فوق نوارسها الراقصة
علّه طار من غفوة الوقت
على صهوة صحوه
علّه غرد للمآل الأخير
أوغل في الصدى،
عانق نايه واختفى،[24]
رسمت الشاعرة من خلال هذه المقطوعة صورة خيالية من صنيع قلبها الذي أنهكه
الحب وأتعبته الأشواق، فصارت تتمنى الليل ينجلي في لحظة حتى تستفيق من
أحلامها بل حتى من أوهامها، فنراها جعلت من الليل امرأة ترتدي جلبابا حالك
السواد لنحس في وهلة أنها تستنطق ليلها وتأمره بأن يمزق هذا الجلباب ليظهر
نوره وينجلي ظلامه، وتكمن شعرية هذه اللغة من خلال الصورة الاستعارية فقد
شبهت الشاعرة الليل بامرأة ترتدي جلبابا حيث حذفت المشبه به وهو "المرأة" في
حين أبقت على قرينة دالة وهي "الجلباب" والفعل"مزق" على سبيل الاستعارة
المكنية، لأنك بالفعل عندما تقرأ قولها تحس أنك واقف أمام شخص يتحرك فرسمت
جسدا ويدين وهنا تكمن شعرية الصورة الاستعارية، حيث يجعل الأديب القارئ أو
المتلقي يسرح بخياله وينتج في الوقت ذاته قراءته الخاصة لما يقرأ أمامه، ولم
تتوقف الشاعرة عند استعارة واحدة لأنها جعلت أيضا من الحلم طائرا يرفرف
ويحلق بجناحيه من مكان لآخر
في قولها"رفرف الحلم"، "عله طار من غفوة الوقت"، عله غرد للمآل الأخير".
والملاحظ هنا أن الشاعرة لم
تأت بقرينة واحدة بل قدمت قرائن متتالية لتصور لنا في الأخير الحلم على أنه
طائر يرفرف، يطير ويغرد إلا أنه حذفت المشبه به "الطائر" على سبيل الاستعارة
المكنية.
تقول الشاعرة في قصيدة أخرى:
يحفر الغياب على جسدي غيابا آخر
يعانق هذا القلب عراءه!
يرسم الغياب على جسدي
جسدا آخر أشد غيابا
وأكثر أفولا[25]
تكمن الصورة الاستعارية هنا في تحويل الشاعرة "الغياب" إلى طرف آخر أو الدال
المتحول إليه وهو "الإنسان" ويمثل المشبه به الذي استغنت عنه، لكنها أبقت على
قرينة تدل عليه وهي الفعلين "يحفر" و"يرسم"، والملفت للانتباه هنا أنها حولت الدال الاستعاري الذي ينتمي إلى العالم الحسي الجامد، إلى دال آخر
ينتمي إلى العالم الحي المتحرك، أي أنها نقلت الدال الحسي "الغياب" إلى
العالم الإنساني، لأنها جعلته يقوم بأفعال يقوم بها الإنسان وهي الحفر والرسم، فقد أصبح الغياب إنسانا يحفر على جسد الشاعرة، لكن الجسد الذي
رسمه الغياب كان أشد غيابا وأكثر أفولا.
تقول في سياق شعري آخر:
في سديم شهيقي إليك
أمد مداي
فيزهر الحلم بين حنايا الصدى غاية
من حنين[26]
لعل النسق التعبيري الذي يلفت الانتباه هنا هو قولها "يزهر الحلم" وأيضا "
غابة من حنين، ففي الأول جعلت الشاعرة من الحلم وهو شيء معنوي يقوم بفعل
الإزهار، وكأنه كائن حي نباتي يزهر ويثمر، لكنه هنا لا يزهر وردا بل شوقا
وحنينا، فقد حذفت المشبه به وهو "النبات المزهر" وأبقت على قرينة دالة وهي
الفعل "يزهر" ودائما على سبيل الاستعارة المكنية، لطالما ارتبط لفظ الغابة في
نفسيتنا بمعاني الخوف والهيبة والضياع لأنها لم تشعرنا يوما بالراحة والسلام
والأمان، فكيف إذا لهذا الحلم أن يزهر حنينا، فهذه الصورة توحي لنا بالغربة
التي تنبع في نفسية الشاعرة حنينا وشوقا.
نقرأ للشاعرة أيضا في قصيدة "المعتقلة":
البارحة تهاطل المطر غزيرا
على الكون...
وتهاطل الشوق غزيرا
على قلبي هو الآخر..[27]
من أجمل الصور التي جسدتها الشاعرة حول الحزن والهموم، فإذا كان المطر
يتهاطل على الكون والطبيعة فإن قلب الشاعرة يتهاطل عليه الشوق والحنين، وتكمن
قمة الإبداع الفني في جعلها للشوق مطرا، فشوقها للحبيب زادها حزنا ومرضا
وورطها أكثر وأكثر، وكأن كل الهموم انهالت عليها من وراء هذا الحب، فرغم
حذفها للمشبه به"المطر" فقد تركت للقارئ دوالا أخرى تدل عليه وهي الفعل
"تهاطل" والصفة"غزيرا"، وتكمن شعرية هذه الصورة في طريقة تصوير الشاعرة لحبها
المزمن فهي تظل "المعتقلة" إذ تقول:
ألقوا عليها القبض
ثانية إنها المحكوم عليها
والمحكوم لها...
واكتبوا
على أبواب زنزانة شوقها
"المعتقلة"[28]
وهنا تصوير استعاري آخر كان له لمسة شعرية فنية ورائعة، فالشاعرة تجعل من
نفسها سجينة وأسيرة لتلك الأشواق فقد أصبح هذا الشوق والحنين بمثابة السجن
الذي حُبست فيه، حيث حذفت المشبه به وهو "السجن" وأبقت على قرينة دالة وهي
غرفة السجن "الزنزانة"، لتجعل القارئ يحس بآلامها وأحزانها بطريقة فنية
وأسلوب متمكن يلفتان انتباه القارئ إلى الحالة النفسية التي تعيشها الشاعرة
وهذا هو هدف كل أديب اتجاه قارئه.
نقرأ لها أيضا:
أيها الليل قف
كي تميط الظلام على حلم رفرف
ثم طار على متن صحوه
ثم تواصل:
ويا غيمة النفس هيا أمطري مطرا
من سهوب الظلال الفسيحة
كي يزهر العشق[29]
الذي لفت انتباهنا هنا أن الشاعرة كررت التصوير نفسه ليس على مستوى القصيدة
بل على مستوى الديوان، أي أنها كررت نفس التصوير الاستعاري بألفاظه وعباراته
ونقلته من "ديوان صدى الموال"إلى ديوان "المشي في محرابك"، والمعروف عن الليل
في الشعر أن دلالته تكون دائما تنصب في حقل الحزن والقلق وكثرة الهموم، أما
عن قيمته الشعرية فإنه يزيد النص الشعري دقة وفنية أكثر بل تجعل حتى القارئ
يعيش الحالة النفسية للشاعر.
فالشاعر المتمكن هو الذي يستطيع أن يوظف صورا تقوم على العقل والخيال معان
لان الصورة الشعرية هي التي تصور لنا معنى عاطفيا متخيلا وتعكس فعلا تجربة
الشاعر فهي"تركيب فني يلعب فيه الخيال دورا أساسيا ومهمتها نقل التجربة المراد
التعبير عنها"[30]، إذن فهي تعبر عن تجربة شعرية خيالية.
ثانيا: شعرية الصورة المرئية في خطاب نادية نواصر:
وهي الصورة التي تربط بين التفكير الحسي والرؤية البصرية، فبالبصر نرى
الأشياء وبالحواس نتعمق في فهمها والغوص في باطنها، وتكمن قيمتها الشعرية
بأنها تضفي على النص الشعري طابعا جماليا يحدث وقعا في ذهن القارئ/المتلقي.
وتقوم الصورة المرئية على ثلاثة عناصر أساسية وهي الدال، المدلول والمرجع
الذي يؤدي دورا بارزا في تفسير الصورة بصريا، مرئيا وحسيا، كما أن للحواس
أهمية كبيرة في إيصال المؤثرات الضرورية لإضاءة وإيضاح الصورة الشعرية، وبهذا
فإن البصر يعتبر من أكثر الحواس نشاطا في التصوير الذهني للصورة، لأن الصورة
التي ينتجها الشعراء تعتمد في مجملها على الحس البصري.
فبالبصر يمكن أن نقرأ الواقع
المحيط بنا فالعين تتحسس الجمال بمختلف أشكاله وألوانه وخاصة من خلال
الألوان، لأن اللون كما يرى جان كوهن هو"أحد الصفات الملموسة الأكثر بروزا في أشياء هذا العالم"[31]، كما أن هناك الكثير من النقاد يعتبرون أن الألوان والأشكال تمثل"وسيلة للشاعر في إحداث التوترات التي تصاحب التجربة الشعورية بوصفها
مثيرات حسية"[32]، وذلك بهدف إثارة القارئ وتحفيزه عن طريق حاسة البصر، لكن هذا لا يعني أبدا
إلغاء الحواس الأخرى ودورها لأن
"الصورة الحسية لست دائما هي الصورة المرئية لأنها نتاج لكل الحواس
الأخرى، ولكنها تمثل النسبة العليا بين سائر المدركات الحسية"[33]، لأن جمال الصورة لا يتوقف عند حاسة واحدة فخيال الشاعر تتلاقح فيه عدة
حواس لتعبر في الأخير عن حالته النفسية أو تصور مضامين اجتماعية أساسها
الإثارة والجمال.
وبالرغم من أن
"الصورة البصرية هي إحساس وإدراك، إلا أنها تشير إلى شيء غير مرئي شيء
داخلي بمكن أن يكون عرضا وتمثلا في آن واحد"[34]،وقد تكون الصورة متحركة مصحوبة بأفعال حركية، تدفع بالنص الشعري إلى التحول
والحركة، وأحيانا يأتي التصوير المرئي مقترنا بأفعال ساكنة وثابتة، تمتزج
بحالة من الجمود والسكون التي تنتاب الحالة والنزعة النفسية المقرونة
بالسكينة، وسنحاول دراسة هذا النوع من الصور في شعر نادية نواصر من خلال بعض
دواوينها التي استخدمت فيها هذا النمط من الصور.
1/شعرية الصورة المرئية المتحركة في خطاب نادية نواصر:
تبرز هذه الصورة في النص من خلال توظيف الشعراء لبعض الأفعال الحركية ضمن
نصوصهم الشعرية، لتمنح القارئ نوعا من الإحساس بالمعنى كما تمد النص بالحيوية
وهنا تكمن وظيفة الصورة المرئية المتحركة، وبهذا تشكل الصورة المرئية
المتحركة نسبة أكبر من الصور المرئية عند الشعراء المعاصرين نتيجة للنشاط
الذي يحياه الشاعر داخل النص الشعري، فالصورة المتحركة داخل النص الشعري"هي التي تحيا بالخيال أنها تسير الجماد وتوقف الحياة، وهي هنا وهناك لا
تقوم بطبيعتها المادية فحسب، بل بطبيعتها النامية المتطورة التي تنبع أصلا
من الرؤية المتحولة و المتغيرة"[35]. وعن الصورة المرئية المتحركة نقرأ للشاعرة قولها:
مشيت في محرابك
إلى آخر الدنيا،
حافية القدمين
أفتح نافدة القلب
أصول وأجول
أتحسس مكانك
لا تتخطى أسوار القلب
ومدارات روحي،
فخارج دفأها مطر السنة
وثلوجها[36]
في هذه المقاطع وظفت الشاعرة حقولا معجمية تدل على الحركة مثل( مشيت، أفتح،
أصول، أجول وأتحسس)، وهي تجاذبات حركية متناسقة نسجت خيوط التجربة الشعرية في
عالم المشهد الشعري الذي يعبر عن حالة نفسية حركية، تتولد مع الشعور العميق
بحرارة الحب الوطني والذاتي للشاعرة حين تلتقي أفعال الحواس(كالتحسس والهمس)
برؤية العين الطافحة بالشوق لبلدها بأفعال الحركة المفعمة بالنشاط والحيوية،
فيصبح هذا الإحساس قاسما مشتركا بين إدراكات الشاعرة الحسية والبصرية
والحركية، فتعكس بذلك صورة الشاعرة التي تفنى في حب وطنها بكل حالاتها
الشعورية.
ونقرأ لها أيضا:
معك،
أصرخ
وألهو
وأضحك
أتحرر من عقدي
تتسرب
من بين أصابعي
أضواء الفرح[37]
هكذا تتواصل أفعال الحركة لتبرز لنا الحالة الشعورية للشاعرة في مواقف
مختلفة فهنا لا ترى السعادة والحبور إلا في حضرة العزيز الذي شغفها حبا فمعه
تلهو وتضحك وتتحرر وتصنع الفرح معه تصرخ من شدة السعادة وهي بجانبه(أصرخ،
ألهو، أضحك، أتحرر، تتسرب)، كلها أفعال تدل على أن الشاعرة كانت في حالة نشاط
وحركية جسدت حالتها النفسية وهي رفقة حبيبها الذي بث فيها النشاط وأفعمها
بالحيوية وصنع فرحتها، وهكذا إذن جسدت الصورة المرئية المتحركة الحالة
الشعورية للشاعرة لتؤثر في المتلقي وتجعله هو الآخر يعيش الحالة نفسها.
وفي ديوان آخر تقول:
ما حفظت،
طول مشوار الهوى
إلا ما ترقص به،
أنغام صوتك
ما حبوت...
ما مشيت...
ما ركضت...
ما لهوت..
ما انتشيت..
إلا في قلعة عشقك
ما تعلمت، المناجاة الكلام
وسياسات الغرام
إلا من قاموس نبضك[38]
تتواصل سياسة الحب والعشق من خلال هذا المقطع ومعها تسترسل الشاعرة في توظيف
أفعال الحركة والنشاط رفقة هذا المعشوق، فقد علمها هذا الحب كيف تحبو، تمشي،
تركض، تلهو، تنتشي وتتعلم كل لغات الحب والغرام، فبهذه الحركية جعلتنا
كمتلقين وكأننا نقف أمام قلعة العشق التي صنعتها لنراها رفقة حبيبها فهاهي
تجسد لنا كيف تعلمت معه الحب عبر مراحل؛ من الحبو حتى الركض ثم تنتقل إلى
تعلم الكلام والمناجاة من قاموس نبضه الخاص، ومن هنا نلمس كيف أن الصورة
المرئية تجسد حقا الحالة النفسية للشاعر من خلال أفعال الحركة المتتالية.
وتتجسد الصورة المتحركة أيضا في قولها:
تهبط من جبل منفاك وحدك...
تضرم نار الشوق
في خلجان الشوق
تشعل طوب الأرض
تصعد نار المنفى...
تعطيها سواحل قلبك
فيحترق الشط مع الشط[39]
تعيش الشاعرة من خلال هذا المقطع الشعري حالة من البؤس والحزن، فهي ترى
وطنها وحيدا، يحن ويشتاق لأبنائه، جسدت الشاعرة هذه الصورة المتحركة من خلال
مجموعة من الأفعال المتوالية، لكن الذي يقوم بهذه الأفعال هو الوطن، وكأن به
صار إنسانا يعيش بمفرده، صورته الشاعرة بأنه يهبط من المنفى ويضرم نار الشوق
ويشعل طوب الأرض ويصعد نار المنفى، فتلك المفردات الفعلية تحمل في طياتها
دلالات الحركة والحيوية أحيانا مثل (تهبط ، تصعد)، وقد تكون أحيانا أخرى
أفعالا حركية تدل على الحزن والعذاب والأسى مثل( تشعل، تضرم، تحترق)، وهكذا
أدت هذه الأفعال الحركية التي أنتجتها الشاعرة معان متناسبة وخلقت صورا
متحركة تلاءمت مع حالتها النفسية.
وهكذا يمكننا تلمس حالة الصورة في الكثير من المفاصل الصورية المؤلفة لحدود
الصورة ومضمونها الدلالي، فالأفعال بدلالتها السياقية داخل القصيدة تحتشد في
مناطق حركية تدل في الأخير على قوة الحركة في الصورة الشعرية.
2-شعرية الصورة المرئية الساكنة في خطاب نادية نواصر:
يأتي توظيف الصور المرئية الساكنة مقترنا بأفعال ثابتة، تمتزج بحالة الجمود
والسكون التي تنتاب النزعة النفسية الذاتية المقرونة بالسكينة، ولا يمكن
القول بأن الصورة الساكنة تفقد النص حيويته، بل تعتبر من بين أنواع الصور
التي تخلق فضاءا إيحائيا أي أنها لا تحمل دائما معنى سلبيا، لأنه يأتي غالبا
مرتبطا بالحالة النفسية للشاعر.
وتعتبر الشاعرة نادية نواصر من بين الشاعرات اللواتي جسدن بكثرة هذه الصورة
ضمن أغلب دواوينها الشعرية، ومن بين النصوص التي تبرز فيها هذا النوع من
الصور قصيدة "العام يخطو صوبنا" تقول فيها:
العام يقبل يا صديقي...!
وأنا على عتبات وقته واقفة
ويدي على مزلاج بابه
كي أكون أول الوردات في كفك[40]
وتواصل في القصيدة نفسها:
العام يخطو يا صديقي
وأنا أنتظرك..
تحت سماء العام كنت واقفة
وحدي يبللني المطر[41]
بنت الشاعرة صورة النص من خلال هذين المقطعين على فعل ثابت هو (الانتظار)،
فالشاعرة كانت تنتظر واقفة على عتبات بيت حبيبها لتكون أول من يهنئه بالعام
الجديد وهذا تعبير منها على شدة شوقها ولهفها لاستقباله، لقد جسدت الشاعرة
صورة مرئية ساكنة تجلت في فعل( الانتظار) الذي يتصف بالثبات، فصورة الإنسان
المنتظر الثابت والصامد في مكانه (واقفة، يدي على مزلاج بابه، أنتظرك، كنت
واقفة)، هي بالتأكيد صورة رومانسية وحساسة رسمتها الشاعرة، لأنه انتظار تحت
المطر يعقبه ترقب وشوق يهيمن على نفسية المنتظر، والمطر رمز طبيعي يوحي
أحيانابالرومانسية.
ونقرأ للشاعرة أيضا في قصيدة ديوان آخر قولها:
أنا ما تركت الأحبة
حين هبت عاصفة الموت
لكنهم تركوني وحيدة
على ساحل القحط..
وعدوني بالحب والحياة الجميلة
وها إني على شاطئ الاغتراب
على ساحل الشك
عاشقة تنتظر..[42]
لم تترك
الشاعرة بلادها ولم تتخلى عن أحبتها حين عصفت أحزان وطنها وأمطرت سماؤه ألما،
لكنها ظلت تنتظر على ساحل القحط، تنتظر من وعدها بالحب والحياة الجميلة و مر
الزمن وها هي لازالت على شاطئ الاغتراب عاشقة تنتظر، وفعل الانتظار دائما ما
يرتبط بالثبات والسكينة، لكن هنا كان الانتظار قد عقبه قلق وحزن خيما على قلب
الشاعرة لأن الأحبة الذين تخلوا عنها لم تتخل عنهم يوما ولم تتركهم وحيدين
لكنهم استهانوا بها وتركوها وحيدة على شاطئ الغربة تنتظر من وعدها بالحب
والحياة السعيدة في حين ظلت حتى النهاية وهي تترقب عودة هؤلاء، لكنهافي
النهاية لازالت على ساحل الشك تنتظر صامدة وثابتة، فالصورة التي جسدتها
الشاعرة في بضعة أسطر شعرية وكانت ساكنة وثابتة وضحت من خلالها حالتها
النفسية المنكسرة من وراء انتظارها السلبي، فقد كانت حزينة ووحيدة ومنهارة
على شاطئ الشك لأن من تركها هناك قد لا يعود يوما.
ونراها تقول في قصيدة (اقرأ جرحي يا ليل العراءات)
يا ليلي الجالس قربي
يقتسم معي وحدة الروح
يرتشف قهوته الباردة مثلي
وأنت ترتشفين الغربة سيدتي
ترتدين "شال" ضياعك الأنيق
وتساهرين الأرق
في شرفات الوقت[43]
وكأن بالشاعرة هنا تسرد لنا الحوار الذي دار بينها وبين ليلها المثقل
بالوحدة، وقد جسدت الشاعرة هذا الحوار في صورة مرئية ساكنة تمثلت في كونها
كانت جالسة في شرفة منزلها ترتشف قهوتها الباردة تقتسم وحدتها مع الليل
الجالس بالقرب منها يرتشف قهوته هو الآخر، يشكو لها من وحدته وسكونه في حين
تشكو هي من غربتها المؤلمة وضياعها المشتت داخل وطنها المنكسر والمجروح.
فمن خلال هذه الصورة يستطيع المتلقي أن يقرأ جرح الشاعرة وآلامها أي بإمكانه
أن يتحسس الحالة النفسية للشاعرة وهذا ما يصبو إليه أي شاعر من وراء توظيفه
لهذه الصور المتنوعة فتارة تراه متحركا داخل نصه الشعري وتارة أخرى نلمس فيه
الهدوء والسكينة ولكن في كلتا الحالتين يستطيع القارئ أن يتلمس حالته النفسية
والوجدانية من وراء هذا التصوير المتنوع.
3- شعرية الصورة المرئية الملونة في خطاب نادية نواصر:
يعتبر اللون من أهم عناصر الجمال التي نهتم بها في حياتنا اليومية، فالحياة
دائما تزخر بالألوان المختلفة التي تثير العين عن طريق أثر عصبي نفسي فيعين
الإنسان، فاللون عنصر مؤثر في الوجود ويلازم حياتنا، فالعين إذن تتأثر بكل
صورة مرئية مثيرة تساعد على تسهيل عملية التواصل بين المرسل والمرسل إليه،
ولقد شغل اللون مكانة فنية في الإبداع الأدبي شعرا ونثرا.
لقد ارتبطت الألوان بإحساس الشاعر المعاصر أدّت دورا كبيرا في تغيير ملامح
التجربة الشعرية من نبض العاطفة وجموح الخيال ووصف الأحاسيس والانفعالات
"ذلك أن اللون في الشعر يختلف عنه في الكلام العادي فالشاعرية تحمل اللون
أبعادا فوق دلالتها الأصلية وتختلف تلك الأبعاد بعد ذلك في رمزيتها ودرجة
إيحاءها"[44]، وبالتالي تخلق لنا صورة موحية تتلاحم فيها الألوان مع تجربة الشاعر
الشعورية المسيطرة والتي تشكل العلاقة بين الشاعر والمتلقي من خلال الرؤية
البصرية، إذ يتلقاه (المتلقي) ويحلله ويتفاعل معه بالإيجاب أو السلب،
فالألوان تختلف دلالتها من نص شعري لآخر، فقد يحمل اللون في النص دلالة توحي
بالحالة النفسية للشاعر ضمن ذلك النص فقط وأحيانا أخرى يكون للون دلالة ورمزا
"لا يتضح معناه للوهلة الأولى بل يحتاج المتلقي لتقري الديوان حتى يصل إلى
المعنى الرمزي[45].
وإذا كان اللون قد شكل
مرتكزا في القصيدة العربية القديمة ولعب دورا مهما في فضاء الصورة، فإن القصيدة الحديثة قد احتفت كثيرا
بجماليات اللون وأصبح يمثل لغة رمزية وشكل تقنية قد لا يستطيع أي شاعر
الاستغناء عنها
"فالألوان تعد من أغنى الرموز اللغوية التي توسع مدى الرؤيا في الصورة
الشعرية وتساعد على تشكيل أطرها المختلفة بما تحمل من طاقات إيجابية وقوى
دلالية، وبما تحدثه من إشارات حسية وانفعالات نفسية في المتلقي"[46]، ذلك لأن الشاعر يسعى دائما إلى جعل القارئ يتلمس تقنيات الإبداع المختلفة
داخل نصه الشعري، حتى يكون حكم المتلقي إيجابيا حول النص الشعري أو
مبدعه.
ومن خلال ما سبق سنحاول الكشف عن هذه التقنية ضمن دواوين الشاعرة
نادية نواصر، وكيف كان للون أثر في تجسيد الصورة الشعرية، خاصة وأن
الشاعرة تملك لغة شاعرية وخيالا مكناها من توظيف هذه الصورة بشكل إيحائي
شاعري وجمالي، فقد توظف في الديوان الواحد أكثر من ثلاثة ألوان على غرار
الأحمر، الأخضر، الأزرق، الأسود والأبيض، وقد تكون ألوانا غير مباشرة كالليل
والشمس والناصع...وكانت هذه الألوان في مجملها تشكل لنا لوحات فنية خرجت من
وجدانيات الشاعرة.
ونلاحظ في بداية الأمر الصورة الملونة بالأخضر اللون الذي يحيل على
الطبيعة، الحياة والأمل، ففي قصيدة "حرب الكلمة هو كلّ ما نملك" تقول
الشاعرة في مقطع منها:
ومن طوب الوطن
نكتب في نهاية المطاف
ليبقى البحر أزرقا...
وتبقى
السهول خضراء
ويبقى عشب
القلب أخضرا هو الآخر[47]
إن الصورة الشعرية هنا ترسبت من انفعالات الشاعرة نتيجة لحالتها النفسية
الحزينة الحالمة بالفرح، فراحت تنشد هذه المشاعر التي افتقدتها على أرض
وطنها، فقد استخدمت اللون الأخضر ومزجت معه اللون الأزرق مستبشرة من ورائهما
الحياة الجميلة والسعيدة بعد حياة أنهكها الحزن والتعب، فهي تحاول أن ترفع
التحدي في ربوع وطنها لتعلن عن ضرورة مواجهة الإحباطات المحاصرة التي تبعث
مشاعر القلق وتجعله يهنأ في نهاية المطاف ببحر أزرق وسهول خضراء يانعة تبعث
الفرح والحبور والطمأنينة، وأضافت الشاعرة في النهاية صورة معنوية مفادها أن
يبقى القلب أخضرا هو الآخر، والمعروف عن اللون الأزرق أنه يدل على الأمان
والصفاء ويدل الأخضر على النماء والعطاء.
وعن اخضرار الوطن دائما تقول نادية نواصر:
لن أعرف الشمسولا الهواء
يا صاحبي إلا إذا
اخضرت حقول بلادي[48]
تجسد هذه الصورة حالة الرفض التي تنتاب الشاعرة نتيجة للأوضاع السائدة في
وطنها المجروح، فهاهي تندد بطريقتها الخاصة وتعلن عن موقفها الرافض لهذا
الواقع المأساوي لوطنها، فنراها تؤكد أنها لن تلمح الشمس ذات اللون الأصفر
الذي يحمل دلالة الغد الجميل حتى تخضر حقول بلادها، وبالتالي تحرر وطنها
ونهضته، وإصرار الشاعرة على عدم استطاعتها رؤية الشمس والهواء يوحي لنا
كمتلقين أنها تعاني داخليا من هواجس ومخاوف متعلقة بآلام وطنها وأوجاعه، وقد
ربطت عودتها للحياة بعودة الوطن هو الآخر إلى حياته الطبيعية، فحين تخضر
حقوله وقتها يكون السلام والأمان قد عادا إليه، وستكون هي حينها حرة طليقة
تتمتع بالشمس وتتنفس الهواء النقي الطاهر في ربوع وطنها.
ونقرأ لها أيضا قولها:
كل شيء يعانق غيبوبته الأبدية
إلا حبك...
فهو يرتدي إكليلا أخضر
هذه الليلة ويقف على عتبة
العام الجديد...[49]
من خلال هذا المقطع الشعري تصرح الشاعرة عن مشاعرها الحية المفعمة بالعطاء،
تعلن عن حياة خضراء وهبها إياها الحب الذي سيطر على كل وجدانها فأصبحت ترى أن
كل شيء حولها قد دخل في غيبوبة إلا حبها الذي يرتدي إكليلا أخضر ويستعد
ليهنئها بالعام الجديد، وبهذا الحب تزيد آمال الشاعرة في الحياة وتبعث في
نفسيتها عالما من الأحلام الراقصة والمحلقة في سماء هذه الحياة،وهكذا كان
اللون الأخضر محفزا لكل الآمال التي تولّد الفرح بالمستقبل الزاهر وتبعث
الأمل بالحياة، فهو يجسد بالفعل الحالة النفسية التي تنعكس على الشاعرة، كما
أن تكرار اللون الأخضر هنا يتجاوز دلالته العامة ليتحول إلى حياة مفعمة
بالأمل متدفقة بالعطاء والنماء.
وكما تجسدت الصورة الخضراء في شعر نادية نواصر، نجد أيضا الصورة الملونة
بالأحمرضمن ثنايا قصائدها خاصة وأن هذا اللون مفضل عند الكثير من
الشعراء، باعتبارهويرمز إلى العاطفة الجياشة والأشواق الملتهبة تارة، ويرمز
إلى الحزن والقهر عند ارتباطه بالدمتارة أخرى، وهنا قد يكون اللون الأحمر
مخيفا نفسيا.
نقرأ للشاعرة في قصيدة "كان من المقرر ألّا أحبك":
لكن...لم يكن من شأني قلبي حينها
إلّا التحديق بذهول مروع في تلك الأحطاب
والنيران التي تحوله إلى جزيرة حمراء[50]
تثير لفظة " حمراء" هنا دلالات عميقة عند القارئ، فهي تشير إلى إيحاءات
نفسية شعورية تنتاب الشاعرة، ولما يقرأ المتلقي قولها "جزيرة حمراء " فقد
ينتابه إحساس نفسي يحيل على الدم في حين أن الرسالة التي نفهمها من السياق
مفادها أن الشاعرة قد شُغفت بالحب إلى درجة أن قلبها اشتعل بالنيران التي
حولته إلى جزيرة تشع بلهيب النار الأحمر لتحاول من خلاله أن توقظ في حبيبها
مشاعر الحب والهيام.
وتقول في القصيدة نفسها:
ولكنني أحببتك وانتهى الأمر
وما جدوى أعراس الرفض
وحتميات القبول في مرحلة
خُتمت فيها القرارات
بالشمع الأحمر؟![51]
رفضت الشاعرة أن تقع في الحب ولكن وقعت الطامة الكبرى على حدّ قولها ووقعت
في فخه واشتعلت نيران قلبها بالعشق، ليتحول قلبها إلى جزيرة حمراء كما رأينا
في المقطع السابق، يعني أنها أحبت وانتهى الأمر فلا مفر من سجنه، أصلا ما
الجدوى من رفضها لهذا الحب وعدم قبوله وقد خُتم هذا القرار بالشمع الأحمر
الذي يوحي بالمنع وعدم التجاوز فحدوده خطيرة وممنوعة لا يُسمح لأحد
بتجاوزها.
وتقول في أخرى:
هل تكتب إعلاناتك إلى من تحب
بالشمع الأحمر على واجهة البحر
يترعرع في القاع ألف سؤال[52]
هنا تتساءل الشاعرة وتستفسر عمّا إذا كان فعلا سيكتب إعلاناته إلى من يحب
بالشمع الأحمر، فهي هنا في موضع استغراب من خلال عبارة الشمع الأحمر التي
توحي بالمنع، فكيف له أن يخط قراراته التي تكشف عن القمع الذي تتعرض له، وهل
لم يجد سوى واجهة البحر الأزرق الهادئ لوصل رسالته هذه إلى من يحب، أو كان
هدفه من ذلك أن قراره هنا سيكون واضحا وثابتا مادام البحر هادئا فلا يمكن
للأمواج أن تسحبه فيُطمس ويُمحى ويتدحرج إلى القاع ويتحول إلى تساؤلات عميقة
وقد ينتهي مفعوله بالنسبة لهذه الحبيبة لتستطيع تجاوز تلك القرارات.
لاحظنا كيف كان استخدام اللون الأحمر في هذين المقطعين رمز للمنع وعدم
التجاوز، فقد جاء مصحوبا بسياقات لغوية تدل على دلالة توظيفه يستنتجها القارئ
من السياق الشعري للنص الذي أمامه.
أما عن ارتباط اللون الأحمر بالدم وبالتالي يكون دالا على الخوف والقهر نقرأ
للشاعرة قولها:
علل مطر الأزمان
واصنع معنى اللغة وحدك
قاوم جزر الجرح، لون الدم
لون الحمرة
لا أحد يدرك غيرك[53]
أعطى اللون الأحمر هنا للنص شحنة قوية أثرت في الصورة، فالشاعرة تطلب من
مخاطبها أن يصنع لغته بمفرده يتميز بها عن غيره، أن تكون لغة خفاقة حاملة
لهمومه وأوجاعه، ليتمكن بها من مقاومة نزيف جرحه، عليه أن يكتب لغته بلون
الدم فتعبر عن آلامه الفظيعة وجراحه العميقة، لأنه لا أحد يدرك عمق تلك
الجراحات إلا أنت الذي تحاول أن تجعل من لغتك لغة شعرية جياشة تفيض بمشاعر
الألم والوجع الإنسان، وهكذا اختلفت دلالات اللون الأحمر عند نادية نواصر من
قصيدة لأخرى، فهو يحمل في طياته إيحاءات ودلالات استوحتها الشاعرة من واقعها
المعاش لتخلق من وراء اللون الأحمر دلالات جديدة وقراءات متعددة، فالشاعر
دائما يختار ألفاظه بعناية تماشيا مع دلالة اللون الذي يوظفه ضمن نصه الشعري،
كما أن أغلب الدراسات تفيد أن
"للون علاقة أكيدة ببيئة الشاعر وشخصيته واتجهت في رؤيتها للألوان شتى
الاتجاهات لم تزد المشكلة إلا عمقا وثراء"[54]، فلا يجب على أي قارئ الاستهانة بتوظيف الشعراء للألوان فإن لكل لون دلالة
ومعنى خفي يرسم الحالة النفسية للشاعر بصدق.
ومن الصور المرئية الملونة أيضا توظيف الشاعرة للون الأزرق ضمن
الكثير من نصوصها الشعرية،فاللون الأزرق يحمل في طياته دلالة تنقلنا إلى عالم
"من الصفاء والشفافية وغالبا ما تعاملت هذه الشفافية مع مفردات الواقع
المادي"[55]، فغالبا ما استخدم اللون الأزرق كدلالة على الطبيعة خاصة عند ارتباطه
بالماء وزرقة البحر، وفي هذا المعنى تقول الشاعرة في قصيدة
المسافات تمددني:
لزرقة المدى..
للمدينة الوهج..
بونة،
للرؤى
لبذخ اللغة الفاحصة[56]
تستفتح الشاعرة قصيدتها بلفظة "زرقة" لتحيلنا على مدى جمال مدينتها "بونة"
وطبيعتها الساحرة، هي لم تربط الزرقة بالبحر بل أحالته على المدينة كلها
لتحسس القارئ بجمال المدينة كلها وعلى امتداد رؤاها بجمال اللغة وبذخها
فالشاعرة تحاول أن تعرف القارئ على مدينتها انطلاقا من اللون الأزرق الذي
يشير هنا إلى
"الهدوء والسكينة والامتداد والعالم الذي لا يعرف الحدود"[57]، فمدينة "بونة" بالنسبة للشاعرة هي مرتع السلم والأمان والطمأنينة والهدوء
فهذا ما تخبرنا به زرقة المدينة.
وعن ضياع أمن الوطن وطمأنينته وبهجته، تقول نادية نواصر في قصيدة
"لن ينتحر الساحل":
يقذفك الساحل للزبد
وأنت تكابد عُريّك...
تضيع لون الشاطئ والزرقة
وهل للشعراء خاتمة في العشق
غير خاتمة الموت؟!
تقصد أبوابي في غسق الزمن الأصفر[58]
نلاحظ هنا كيف ضاع لون الشاطئ وزرقته ومعه ضاع الوطن إذ تعرى من أمنه
وسكينته، فالشاعرة أحبت الوطن لدرجة العشق لن لكن لسوء الحظ أن عشقها قتلها
في نهاية الأمر وكيف تعيش في وطن ضيع زرقته، ولم تكتف الشاعرة بضياع اللون
الأزرق للدلالة على موت الوطن وموتها بل راحت توظف لونا آخر يحمل حتى هو معنى
البؤس والكآبة والضياع والذبول لحد الموت وهو اللون الأصفر، فجسدت
الشاعرة هنا صورة خفاقة بمعاني اليأس والكآبة "لتظهر لوحتها ذابلة شاحبة،
زوايا الألم تزخرفها لتعكس مدى إحساسها باليأس"[59]، وهكذا أبانت الشاعرة عن حالتها النفسية الحزينة عند ضياع اللون الأزرق لون
الهدوء والسكينة.
وتحاول الشاعرة غالبا عند تغنيها بوطنها أن تمزج الألوان لتفرد له صورة
خاصة، صورة تعددت ألوانها لتختلف إيحاءاتها من قارئ لآخر، نقرأ للمبدعة:
تسكنني مزودا بدفء الكلمات
باحمرار الشفق، بزرقة البحر
بمد العمر وجزر الأيام
بالنسغ المخضر المشرئب
صوب فضاءات الشمس، وديمومة الإشراق[60]
تجعل الشاعرة نفسها مسكنا لوطنها، فيسكنها وهو مزود بالكلمات الدافئة التي
تزيد من عشقها له وحبها لجمال لحظة الغروب عند المساء لتزيد الطبيعة جمالا
ورونقا، فذلك هو الشفق الأحمر الذي يلقي بامتداداته على زرقة البحر، لقد جسدت
الشاعرة هنا لوحة فنية في قمة الجمال، ليتزود عمرها بأيام خضراء تنم عن
العطاء والخصب والنماء، فكل السياقات اللغوية التي أفردتها الشاعرة تحمل في
طياتها دلالات التفاؤل والأمل بحياة كلها هناء وسعادة طمأنينة وأمان، لأن هذا
التدرج في الألوان هو انعكاس للحالة النفسية المتدرجة عند الشاعرة.
ولم تستغن الشاعرة ضمن دواوينها عن ألوان أخرى كان لها الأثر البالغ في
تجسيد حالتها النفسية، لكنها كانت بصورة أقل من توظيفها للألوان المذكورة
سابقا وأبرز هذه الألوان اللون الأسود كما جاء في قولها في قصيدة
"أتسلق عمر الأيام":
فيا خماري الأسود
أحُطعلى سوادك
تذكرة الرحيل
فحيطان الغرفةأنشدت للتهيئة
المدميةوالجو المخنوق[61]
إن الصورة التي جسدتها الشاعرة عنا ملونة بالأسود، لأنها تصور غرفتها
المدمية وجوها المخنوق، لتقرر الرحيل منها وهي تحط على خمارها حزنها وجرحها
المؤلم، والمعروف عن اللون الأسود أنه دائما يرمز للحزن والألم والجراحات
المدمية، فقد جسد في هذه الصورة الحالة النفسية المضطربة التي تعيشها الشاعرة
بالإضافة إلى توظيفها اللونين الأبيض، الوردي وقد توظف ألوانا غير مباشرة
كالليل الحالك، الظلام...
فكل هذه الألوان تحمل في طياتها دلائل قصدية يفهمها القارئ من السياق،
فالشاعر يحمّل كل لون دلالاته العادية المستوحاة من الواقع الطبيعي، ويمكن
القول هنا أن
"عالم الألوان من أكثر العوالم اقترابا لعالم المرأة (الشاعرة) لتي لمست
من خلاله مدى إبداعها في التعبير عمّا يعتري وجدانها من أحاسيس وأحلام،
فارتبطت برمزية اللون بشكل نفسي لذلك قدمتلوحات شعرية تستوعب حجم معاناتها
الملونة بقضايا خاصة وعامة"[62]،
وهذا ما لمسناه عند شاعرتنا نادية نواصر فقد وظفت الألوان بدلالاتها الثابتة
والمتغيرة لتؤثر في القارئ وتدفعه إلى قراءة أشعارها الملونة التي تكشف له عن
إبداعها وجمالية توظيفها للألوان خاصة اللونين الأخضر والأحمر اللذين كانا
أكثر اقترابا لإحساس الشاعرة في معالجتها لقضاياها النفسية الوجدانية.
ثالثا: شعرية الصورة الرمزية في خطاب نادية نواصر:
يُعد الرمز صورة من صور الإبداع الشعري، يعمد الشاعر إلى توظيفهليعبر عن
حالة أو تجربة شعورية، أو نتيجة لضغوطات مختلفة ثقافية وتاريخية، إذ يُعد
نوعا من الحصانة الذاتية والثورة النفسية، وبالتالي
"فالتعبير بالرمز يضفي نوعا من حرية الإبداع ورحابة التخيل وثراء
التأويل"[63]، فالرمز من أبرز وسائل التعبير الفكرية اللامباشرة والإيحائية حين تعجز
اللغة العادية في التعبير عن تلك الحالة، يكتشفها القارئ من خلال فك وتحليل
شفرات تلك الرموز، لأنه تلميح غير مباشر يهدف إلى جذب القارئ وإثارته فالرمز
إذا هو
"التعبير غير المباشر عن النواحي النفسية المستترة التي لا تقوى على
أدائها اللغة في دلالاتها الوضعية"[64]،
فهو قناع يعبر به الشاعر عن طريق توظيف ألفاظ وألقاب تحيل على المعنى فكأنما
يتستر عن أمر ما، وهنا تأتي مهمة القارئ في البحث والكشف للربط بين الدلالتين
الخفية والحقيقية، فالرمز ظاهرة فكرية وجمالية تثري النص الشعري تتداخل فيه
وقائع لأزمنة متعددة ليكون عالما مغايرا يربط الواقع باللاواقع إذ أن
"الرمز الحديث لغة الرؤية التي تصل الواقعي بالخيالي والأسطوري، الماضي
بالحاضر والمستقبل، الإقليمي بالقومي والإنساني، الذاتي بالعلم، على نحو
دلالي كثيف تزدادكثافته ويشتد غموضه وتكثر تفسيراته"[65]، كما أن القصيدة العربية المعاصرة أصبحت إطارا شعريا يضم صور ومواقف أكثر
إيحاء وكثافة، والرمز
"هو ما يتيح لنا أن نتأمل شيئا آخر وراء النص، فهو قبل كل شيء معنى خفي
وإيحاء، إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي القصيدة أو هو القصيدة التي تتكون
في وعيك بعد قراءة القصيدة، إنه البرق الذي يتيح للوعي أنيستشف عالما لا
حدود له، فهو إضافة للوجود واندفاع صوب الجوهر"[66].
فالرمز يسعى في وظيفته إلى
تكثيف الصورة الشعرية وإغنائها ويزيد من قيمتها الفنية الجمالية، لكن هناك
مبالغة في توظيف الرمز من قبل الشاعر كلما زاد غموض النص الشعري، وبالتالي
الابتعاد به عن الجمالية، كما أن تلك المبالغة ينتج عنها صعوبة في فهم النص
من قبل المتلقي ويمكن القول أنه لهذا السبب لم يعد من السهل أن يتم تحديد
بنية القصيدة الحديثة المشبعة بالرمز لما يضفيه من تعقيد وغموض، وبالتالي
كلما وظف الرمز بشكل جمالي دقيق ومقنع فإنه يساهم لا شكّ في الارتقاء بشعرية القصيدة وعمق دلالاتها وقوة تأثيرها
في المتلقي فالعلاقة بين الصورة الرمزية والمتلقي تكون على"درجة من درجات التوافق بين القيمة المعرفية للرمز والإيحاءات الانفعالية
والجمالية عامة والرصيد الثقافي الذي يحمله هذا المتلقي"[67].
وسنحاول الوقوف في دواوين الشاعرة على توظيفها للرمز وجمالياته ضمن النصوص
الشعرية، وما هي الرموز التي عمدت إلى توظيفها؟ وهل فعلا عبرت عن واقعها
وتجربتها الشعورية؟
1- شعرية الرمز الطبيعي في خطاب نادية نواصر:
لقد امتزجت الذات الشاعرية النسوية الجزائرية امتزاجا كبيرا بعناصر الطبيعة
التي توحي بدلالات حسية تجسد أحلام كل شاعرة ورؤاها، لتبعث في نفسها روح
التجدد كرموز النماء والخصب والأمل والتفاؤل في الحياة...وغيرها من السمات
التي تتفاعل مع وجدانها
وكينونتها، وقد مثلت عناصر الطبيعة ظاهرة بارزة في شعر نادية نواصر، والهدف
من ذلك هو الإيحاء بدلالات عديدة تبعث على التشبث بالحياة من خلال تمسكها
بالأرض والوطن، فراحت تستلهم من الطبيعة رموزا وتضمنها في نصوصها الشعرية،
فالرموز الطبيعية سمات حية تتفاعل مع الإنسان وتشاركه همومه ومشاعره ليتحدى
من خلالها كل عوامل القهر والقلق...
وهذا ما وقفنا عليه عند نادية نواصر من خلال توظيفها لبعض عناصر الطبيعة
بصورة مكثفة، وعن ذلك نقرأ لها في قصيدة "اقرأ جرحي يا ليل العراءات"
حين وظفت الشاعرة كلمة "مطر" كرمز للشوق والأمل والحياة إذ تقول:
مطر يسقط يا سيدتي
مطر يسقط...
مطر...
مطر...
وأنت من خلف واجهة العمر
تعلنين توهجك للجرح المكتوم
وتخطين الأشعار
على قسمات النار
بوجع التيه[68]
جعلت الشاعرة من المطر رمزا لأشواقها وباعثا للحياة والأمل، فرغم الأحزان
التي تعيشها والآلام التي تعانيها يظل المطر يبعث عليها الأمل في الحياة من
جديد، فتعلن بذلك التحدي لتواجه تلك الجراحات بصمت من خلال كتابة الأشعار
التي صارت ملجأ أحزانها وأوجاعها، فاعتبرت الشاعرة زخات المطر بذرة أمل تنبض
بها الحياة من جديد.
ويمكن اعتبار كلمة "مطر" هنا هي مركز الفاعلية الرمزية حيث صنعت تركيبة أثرت
في العلاقة بين الحسي والمعنوي، فعند قراءتك لقولها (مطر يسقط/مطر/مطر/مطر)
تشعر وكأن الشاعرة غارقة في الطبيعة الحسية لأن المطر من طبيعته ينزل على
الأرض، ولكن عند قراءتنا للعبارات الموالية كقولها (تعلنين توهجك للجرح
المكتوم/تخطين الأشعار/ بوجع التيه) نلاحظ أن هذه الطبيعة الحسية قد تجسدت في
صورة شعرية رسمها مخيال الشاعرة لتحسس القارئ بمدى جرحها الكبير، لكن في
الوقت نفسه تصنع لنفسها طريقا من الأمل في الحياة من جديد من خلال رمزية
المطر المتساقط.
وإذا كان المطر رمزا للأمل وبعث الحياة من جديد، فإن "الريح" هي رمز
التحدي والقوة وعن ذلك تقول نادية نواصر في قصيدة
"لن ينتحر الساحل"
وأنت يا وطني إلى خلجان القلب
آت..
وأنا امرأة الريح
امرأة الشهب
النار
أطلقت في ريح العمر معان شتى
لا تعتصر وجعي الشديد
فإن للريح أشرعة تعلمني الجنون
حين أعرش في الموانئ
في سديم الريحفي هول المطر
وآلمني أن أراك وحيدا
تتواصل فيّ زاحفا
ريحا
مطرا
حجرا
تربة[69]
إنها صرخات أنثوية أطلقتها الشاعرة مشحونة بحزن كبير على وطنها الذي بات
وحيدا، فهي لا تسكنه رغم حبها الشديد له، لتصير ريحا مدمرة تدمر كل من يعترض
طريقها كي تعود إلى وطنها وتسكنه من جديد، فراحت تشبه نفسها بالريح التي
علمتها الجنون والثورة، فالريح هنا رمز للقوة الجامحة وظفتها الشاعرة لتسقطها
كرمز على ذاتها القوية التي تريد تخليص وطنها من كل الأحزان والجراحات
والوحدة التي كان يعيشها، فهي ثائرة كالريح العاتية التي تهب لتدمر كل ما
أمامها، ريح هبت بقوة حبها لوطنها فهي لن تستسلم للضعف، وستواصل زحفها للوصول
إلى هذا الوطن، فالريح إذا هي رمز القوة والثورة التي تشتعل كنار الشهب في
خلجان قلب الشاعرة المعبر عن إحساسها العميق بهموم وطنها وقضاياه، كما أضافت
الشاعرة عناصر طبيعية أخرى كالمطر، التربة، الشجر والنار، وطالما اعتبرت
الطبيعية هي الوجه الآخر للإنسان على الأرض ولهذا جعلت الشاعرة من عناصرها
رموزا للتعبير عن وطنها وأحزانه وهمومه المختلفة.
كما وظفت الشاعرة رمزا آخر تعددت دلالاته وتغيرت ألوانه وهو رمز
الشمس، وهي رمز تعددت وتنوعت دلالاته، وقد أكد علماء الأساطير والميثولوجية العربية
"أن الشمس والقمر إلهان معبودان ترتبط بهما جملة من الطقوس السحرية"[70]،وهذا الرمز لا يكاد يستغني عنه أي شاعر خاصة هؤلاء المولعين بحب وطنهم، فهي
حلم كل إنسان شغوف بحب وطنه، ولعل أبرز ديوان يمثل هذه النزعة عند نادية
نواصر هو ديوان "لبونة صهد القلب" الذي تكرر فيه هذا الرمز بصور متعددة
ومختلفة، فنراها تقولفي قصيدة "حرب الكلمة هو كل ما نملك"
كي تطلع
من تحت الرماد شمسالحق
نكتب لحظة الوجع
كي تبزغ الشمس
شمس الوطن العربي الحبيب[71]
إذا كانت الشمس ظاهرة كونية تشرق كل يوم على الناس، فإن الشاعرة هنا جعلت
منها رمزا طبيعيا استلهمته لترسم منه حالتها النفسية المشحونة بروح التفاؤل
والإشراق والضياء، رمز الشمس الذي يمنح الكون جمالا فهي نور الحق الذي يبحث
عنه الإنسان، فالشاعرة تحلم أن تظهر الشمس يوما ما وتشرق على الوطن العربي
لينعم بصبح جميل يمنح للنفس الحياة، سبح هذا الرمز في ذات الشاعرة ومكامنها
لتفيض للقارئ بباعث نفسي مفعم بأمل قدوم عدالة الحق.
فقد جسدت "الشمس" هنا صورة
شعرية ورمزا فنيا عبر عن إحساس الشاعرة التي مهدت لهذا التصوير الرمزي في
عبارات سابقة له تتقدم بالإيحاء خطوة خطوة (نكتب/ نحترق/ نتغطى برماد
الكلمات)، تتألم الشاعرة وتتحسر على حالة الوطن العربي وأوجاع الأمة العربية،
وفي النهاية يأتي حلم الشاعرة بأن تبزغ الشمس يوما لتنير الحق وتشعل منارات
السلام لتضيء حدائق النصر في الوطن العربي.
هذه بعض النماذج التي وظف فيها الرمز الطبيعي مع أن الشاعرة استعانت برموز
طبيعية أخرى كالنار/ الثلج/ الطوب/ الماء ..)[72]، إلا أن هذه الرموز لم تجسد تلك الشعرية التي جسدتها الرموز السابقة الذكر
رغم أنها في مجملها كانت تؤدي معان مختلفة من دون أن توظفها الشاعرة بشكل كلي
في القصيدة وإنما جاءت كتوظيفات جزئية من ديوان لآخر.
2-شعريةالرمز الديني في خطاب نادية نواصر:
ونعني به تلك الرموز المستقاة من الكتب الدينية القرآن الكريم، الإنجيل
والثوراة، إذ قلما نجد قصيدة معاصرة تخلو من الرموز الدينية، يستعين الشاعر
بها ليضفي دلالات زاخرة في قصائده تزاوج بين الأصالة والمعاصرة، كما أن هذه
الرموز تحمل في طياتها دلالات وإيحاءات تنسجم مع الواقع المعاش، وتفتح أمام
القارئ أو المتلقي بوابة القراءة والتحليل والاستكشاف.
والملاحظ عن الشاعرة نادية نواصر أنها متشبعة بالثقافة الدينية التي تعلمتها
وعلمتها وتربت عليها، وبالتالي فقد عمدت إلى تضمين الكثير من قصائدها العديد
من الرموز الدينية التي طالما حملت دلالات موحية ترتبط بالواقع الذي تريد
الشاعرة أن تفسره للمتلقي، ومن أبرز الرموز التي وظفتها الشاعرة في دواوينها
رمز"زليخة" تلك المرأة العاشقة التي كانت ولازالت وستظل رمزا للحب
الكبير بل للعشق والشغف.
ومثال ذلك قول شاعرتنا نادية نواصر في قصيدة
"حديث زوليخة":
قل بأني كزليخة
حين همّتحين همّ...
راودته عن هواها
أعطني حضنك واصمت[73]
وكأن بالشاعرة هنا تحاول أن تكون هي زليخة إذ أصبحت عاشقة مجنونة تحاول أن
تراود معشوقها عن نفسه وتجبره على الخضوع لشهواتها رغما عنه، فقولها (أعطني
حضنك واصمت) يحيل على عدم قبولها أي اعتراض على مطلبها، والملاحظ أن الشاعرة
لم تكتف بتوظيف هذه الصورة الرمزية لمرة واحدة فهاهي تقول في قصيدة أخرى
بعنوان "أنت هنا مند ربع قرن":
جابهت في طريقي إليك
زمن مجنون ليلىوروميو وقصة
زليخة وسيدنا يوسف
المرأة التاريخية
حين همت
به وهم بها...[74]
حاولت فيها الشاعرة في الأسطر الشعرية السابقة أن تبرزللمتلقي مدى أصالتها
الناجمة عن ذلك التماهي اللطيف مع الكثير من القصص التاريخية والتراثية
والدينية، خاصة قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع زليخة، هي قصص
استعادتها الشاعرة لتكون جسرا يربطها بالمتلقي، ويحقق لنصها الشعري من جهة
أخرى مشروعية تراثية من خلال لغة المراوغة، وقد يتساءل القارئ من خلالها ما
الذي يربط الشاعرة بزليخة؟ وقد يكون جواب نادية نواصر أنها واجهت وجابهت
المستحيل لتصل إلى من تحب، وما هناك أكثر من الخيانة لأن زليخة خانت زوجها
العزيز،ومن أجل شغفها تعرضت لكل أنواع الإهانات لكنها لم تستسلم إلى النهاية،
ومن جهة الشاعرة فإنها تجابه كل الصعاب للوصول إلى محبوبها الذي انتظرته
سنوات عديدة ولعل الانتظار هو الرابط بين الشاعرة وزليخة إذ تواصل قولها:
عشت كل هذه
القصص بعصورها وأجوائها
.................
عشت كل هذه الطقوس وتقلباتها
وكابدت فيها
مناخات القلب
ربع قرن
وأنا أسس لبقائك[75]
يمكن القول:إنالشاعرة حاولت أن تنحو هذا المنحى الرمزي لتجعل من زليخة هذا
الزمان شهوة القول، لأننا لاحظنا كيف ارتبط هذا الرمز بالمراودة، وإن كانت
زليخة شهوتها جنسية فإن الشاعرة شهوتها قولية لأنها لم تجد في يوسفها ما
تريد، فصارت تبحث عن روح القصيدة وأصالة الشعر التي تميز كل شاعر عن آخر، كما
تجعل القارئ أو المتلقي يتحسس صدق شعرية هذا الرمز داخل النص الشعري وهذا
مراد كل شاعر.
ولم تستغن الشاعرة عن توظيف رمزي "آدم وحواء" كرمزين دينيين لا يكاد
يستغن عنهما أي شاعر إذ تقول في قصيدة "كان من المقرر ألا أحبك":
كنت أدرك أنك مشروع رحلة
يتوجها الدماروالخراب
بعد أن تبلغ ذروة النمو والحياة
وتتغذى من ثمار الأشجار المحرمة
وتصبح تلك الشجرة المحرمة التي أكل منها آدم وحواء[76]
وهكذا استعملت الشاعرة رمزي آدم وحواء للتعبير عن حالة نفسية مضطربة، حالة
متأثرة بمعاني الدين الحنيف، وقد ربطت الشاعرة بين آدم وحواء والشخص الذي
أحبته برمز ديني آخر وهو "الشجرة المحرمة" وهي الشجرة التي أخرجت آدم وحواء
من عالم إلى عالم آخر، لأن الله حرم عليها أن يأكلا من تلك الشجرة لكن غلبت
عليهما وسوسة الشيطان فأكلا منها وصارا حينها في عالم الدنيا الظالم والفاسد،
أصبح الشخص كالشجرة المحرمة إذ لا يجب عليها الاقتراب منه، بل وجب أن تقرر
بأن لا تحبه وهذا ما لمسناه في بداية الأسطر السابقة.
فهي إذا حالة
نفسية بائسة ومضطربة تعيشها الشاعرة في مرحلة معينة من حياتها إذ تقول في
الديوان نفسه وبالضبط في قصيدة"امرأة المسافات الملغمة بحبك":
كي نحيا سويا عاقبة التفاحة
التي دعت حواء آدم لالتهامها[77]
والملاحظ على هذه القصيدة أيضا وأغلب قصائد هذا الديوان أنها تطبع في نفسية
القارئ حالة من التشاؤم واليأس، لأن الشاعرة كانت عل طول الديوان عابسة
ونفسيتها مضطربة كأنها عاشت مرحلة صعبة في حياتها خاصة من الناحية العاطفية،
لأنها ظلت تتعذب على طول أغلب القصائد من البعد وعدم الوصال بينها وبين
حبيبها، والدليل على ذلك أنها عمدت إلى توظيف صورة أخرى من صور الرمز الديني
في الديوان نفسه وهو نوع من الاقتباس أو التضمين من القرآن الكريم، سواء كان
صريحا أو مضمرا ويأتي ذلك في قولها في قصيدة"يتساقط جلدي إلاك":
يوم سقطت في أعشاب صدرك
حيث تطاولت ألسنة النار
تضرعت للشهب
يا نار كوني بردا وسلاما
على القلب المحكوم عليه[78]
نلاحظ من خلال هذه الأسطر الشعرية أن الشاعرة قد استحضرت قصة نبي الله
إبراهيم عليه السلام مع قومه الظالمين الذين استبدوا به عندما قدم لهم
البراهين والدلائل التي تثبت صحة دعوته فكادوا له، وهذا ما جاء في قول الله
تعالى عزّ وجلّ في القرآن الكريم:"أَفَتَعْبُدُونَمنْ دُونالله ما لا يَنْفَعُكُم شيئًا
ولايَضُرُكُم(66)أُف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون(67)قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين(68)قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم(69)وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين(70)"[79]،
فقد استجابت النار التي أعدت لإبراهيم وكانت بردا وسلاما وخرج منها نبي الله
سالما آمنا.
لكن الشاعرة هنا احترقت بنار الحب فطلبت منها أن تكون بردا وسلاما عل قلبها
الضعيف لكنها لم تستجب لها فسقطت من أعالي شموخها كالورقة الذابلة التي تسقط
من أعلى الشجرة، فأصبحت تتآكل من شدة الحيرة والقلق من اشتعال نار هذا الحب
الحارق.
والملاحظ هنا أن الشاعرة قد استخدمت هذا الرمز بدلالة عكسية إذ وظفته
"للتعبير عن معان تناقض المدلول الديني لها، وتهدف من هذا إلى توكيد نوع
من الإحساس العميق بالمفارقةبين المدلول الديني والبعد المعاصر الذي يستخدم
الرمز في التعبير عنه"[80]، لأن النار التي سعرت على إبراهيم استجابت لربها وكانت بردا وسلاما على نبي
الله وخرج منها من غير أذى، في حين أن نار الشاعرة قد أحرقت قلبها وتطاولت
ألسنتها إلى كامل جسدها، فالشاعرة إذن قد استخدمت هذا الرمز بعكس مدلوله
الديني فقدمت لنا صورة شعرية مختلفة عن مدلول "إبراهيم" عليه السلام.
ومن الرموز الدينية التي استقتها الشاعرة من القرآن الكريم رمز"مريم العذراء"، التي اتخذت لنفسها مكانا قصيا لتتوارى عن أعين الناس خجلا مما أصابها، ولم
تكن مسؤولة عما جرى معها وإنما حكمة من الله للناس إذ يقول في محكم تنزيله((فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا
منسيا(23)
فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا(24)
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا
(25)فكلي واشربي وقريعينا فإمّا ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن
صوما فلم أكلم اليوم إنسيا(26)))[81]، وتقول الشاعرة نادية نواصر في قصيدة"أحزان مريم":
فشدي بجذع النخل
غداة المخاض العسير
سيساقط الصبرمن غيمة الصبر
لا تجزعي
كلي واشربي[82]
فإذا كانت "مريم العذراء" قد تساقط عليها رطب التمر عندما جاءها المخاض، فإن
مريم الشاعرة قد تساقط عليها الصبر لتشرب وتأكل منه، فقد جعلت الشاعرة من رطب
الصبر مفتاحا لتفتح به أبواب بونة الجديدة، بونة يشيع فيها الأمن والسلم
والاستقرار النفسي، لقد خلقت هذه الآية في نفسية بونة وحتى القارئ أو المتلقي
مسارا خاصا يحدد البعد الشعوري الذي يرتبط بالأزمة الراهنة التي تمر بها
البلاد.
ومن الرموز الدينية أيضا التي استمدتها نادية نواصر من القرآن الكريم رمز"سدرة المنتهى" والتي جاءت في قوله تعالى:((ولقد رءاه نزلة أخرى(13)
عند سدرة المنتهى(14)
عندها جنة المأوى(15)
إذ يغشى السدرة ما يغشى(16) ما زاغ البصر وما طغى (17)))[83]، وجاء هذا الرمز مجسدا في قول الشاعرة في قصيدة "اعترافات جارية في بلاط
الرشيد":
وحبك عرّش صوب السموات
عانق سدرة روحي
وعانقها سدرة المنتهى[84]
وفي قصيدة أخرى تقول:
معك
أصعد إلى سدرة
منتهى الحلم
على أجنحة النبض
حيث يمد الوريدجسره
إلى زمن الذاكرة الحبلى بالعشق[85]
ويظهر من قوله تعالى كما ذهب إلى القول بعض العلماء أنه عند سدرة المنتهى
تنتهي الدنيا وينتهي علم الخلائق، هي عالم يفوق أي وصف وخيال، وفي المقطعين
السابقين تحاول الشاعرة أن تصف للقارئ قمة العشق الذي عرش عبر السماوات ليصل
إلى المنتهى حيث ينتهي كل شيء، ومع هذا الحب تصنع جسرا لأحلامها الممتدة عبر
هذا العشق.
وتقول في قصيدة أخرى بعنوان "لبونة صهد القلب":
آه بونة
يا دهشتي المشتهاة
ويا ورطتي المرتجاة
ويا رتبتي المرتقاة
إلى سدرة منتهى
الوجد[86]
يجسد هذا المقطع حالة الشاعرة المغرقة في الأسى، إذ قادتها أمانيها إلى
المستحيل فهي تحاول أن تهرب بلادها إلى سدرة المنتهى بعيدا عن الآلام والمحن،
أين ترتقي فيها الذات إلى حضرة الأنبياء، لكنه ارتقاء لغوي لجأ إليه الشاعر
ليمنح ذاته العزاء والسلوى، لأن صعود الأنبياء إلى سدرة المنتهى حقيقة مقدسة
في القرآن الكريم، أما في واقع النص الشعري فقد جاءت ارتقاء لغوي يضفي على
النص صفة الدرامية والشاعرية التي تجعل المتلقي يرتقي بخياله إلى عالم مثالي
تصنعه الشاعرة داخل النص الشعري.
3-شعرية الرمز التاريخي التراثي في خطاب نادية نواصر:
مثلت الشخصيات التاريخية للشاعر المعاصر طاقة تعبيرية، صور من خلالها واقع
أمته متخذا منها أقنعة للتعبير عن موقف معين لأن تلك الشخصيات ليست مجرد
أسماء تنتهي بمجرد انتهاء وجودها، بل حملت ولازالت تحمل دلالات شمولية قابلة للتجديد على امتداد الأزمنة والتاريخ بصيغ
وأنماط مختلفة، ويعتبر استحضار الشخصيات التاريخية في الشعر المعاصر من إحدى
الوسائل التي يعبر بها الشاعر عن الواقع والاستفادة من تجاربهم الخالدة
"لأنها قادرة
على الإيحاء أكثر من سواها وهذا ما
يثيره من مشاعر عن طريق استحضار ما يحيط بها منوقائع تاريخية كما أن
الشخصية التاريخية تمتلك وجودا واضحا في ذهن الشاعروذهن المتلقي"[87]، ومن هنا كانت الشخصيات وجها آخر للشاعر يستحضرها في قصائده ليرسم بحسه
المأساوي ما آلت إليه أمته، وما هذا الاهتمام بتلك الشخصيات من قبل الشعراء
إلا دليل على ما تحمله من دلالات ومعان مختلفة إذ
"كلما كان الرمز قديما، وأكثر عمقا، وكان جماعيا وكليا، كان بذلك أكثر
تجسيدا"[88]،
فتجسيد تلك الشخصيات يزيد من طاقة الشاعر التعبيرية، وقدرته البيانية وما هذا الاستلهام إلا
وسيلة للتواصل مع تلك الشخصيات والأخذ بتجاربها الخالدة فيحاول الشاعر من
خلالها أن يمثل القيم والمبادئ التي جسدتها في الواقع، لأن
"الصور الرمزية تبدأ من الأشياء المادية، على أن يتجاوزها الشاعر ليعبر
عن
أثرها العميق في النفس في البعيد من المناطق اللاشعورية، وهي المناطق
الغائرة في النفس ولا ترقى اللغة في التعبير عنها إلا عن طريق
الإيحاء بالرمز المنوط بالحدس"[89]، وقد استدعت الشاعرة نواصر ضمن دواوينها العديد من الشخصيات التاريخية،
التي كان لها أثرا بالغا في تجسيد شعرية التصوير الرمزي التراثيومن أبرزها
رموز (عنترةعبلة، قيس وليلى)، وهي رموز تمثل قصص
الحب والعشق والغزل المشهورة في التاريخ العربي إذ تقول في قصيدتها "حديث
زوليخة":
واحك لي يا حبيبي
عن أقاصيص الهيام
أحك عن عبلة
عن عنتر...
واحك عن مجنون ليلى
قل بأني الآن أنثاك[90]
وتقول في قصيدة أخرى:
جابهت في طريقي إليك
زمن مجنون ليلى
وقيس
ابن الملوح
وروميو وقصة
زليخة وسيدنا يوسف[91]
إن الغاية التي تريد الشاعرة إثارتها في ذهن القارئ/المتلقي من خلال توظيفها
لتلك الرموز هي التعبير عن الشعور الإنساني الرومانسي الجميل الذي يجمع بين
كل المحبين، فالشاعرة ترى بأن حبها هو امتداد لأقاصيص العشق والهيام التي
عاشها هؤلاء الأبطال في زمن مضى، وكيف عانى كلا منهما بسبب الآخر، فقد أصبحت
تلك الشخصيات بالنسبة للشاعرة رمزا ومثلا أعلى يحتدى به في قصص العشق، وكأن
بهم أصبحوا قبلة للعاشقين ومنهم يتعلم من يأتي بعدهم المعنى الحقيقي للحب
المثالي، تحاول الشاعرة من خلال هذا التوظيف أن تثبت أن الحب لا يمكن أن
يشترى بأي ثمن بل هو إحساس يجمع كل المحبين من عاشقين وأقارب في الزمن الراهن
أين غاب فيه هذا الإحساس في بعض مناحيه، ولتوضيح ذلك تقول الشاعرة في قصيدة
"حرب الكلمة هو كلّ ما نملك":
نكتب أوجاع المرحلة
لنعودبالحب العربي إلى زمن
مجنون ليلى...
لنبكي على أطلالنا[92]
فهاهي الشاعرة تحاول أن توضح لنا أن زمن الحب العربي قد ولى، يوم انتهى زمن
مجنون ليلى وغيره من المحبين الذين زرعوا المحبة في أوطانهم، بل إنها تتمنى
العودة بالحب العربي إلى ذلك الزمن للبكاء على الأطلال، لأن الأمة العربية في
هذا الزمن قد تشتت ولم تعد تعرف معنى الحب فتفرقت الأوطان العربية واتفقت على
ألا تتفق مرة أخرى، قد غيرت الشاعرة دلالة توظيف تلك الرموز في هذا المقطع
الشعري حيث أصبح حب الزمن الماضي رمزا للتوحد والاتفاق بين دول الأمة
العربية، التي تشتت اليوم ولم تعد تعرف معنى التوحد والمشي في طريق واحدة
لتحرير الأمة الإسلامية من الظلم والاستعمار خاصة القدس المحتلة.
كما استدعت الشاعرة شخصية أخرى بارزة في التاريخ العربي ألا وهي شخصية (صلاح الدين الأيوبي)،
التي كان لها دور هام في
كتابة التاريخ العربي وقيمه ومبادئه، فقد جاهد وضحى في سبيل الإنسانية، وهذا
ما جعله جزءا هاما من التاريخ واكتسب مكانة وقيمة بارزتين في ذهن الشعوب
العربية، كيف لا وهو من حرر القدس من أيدي الصليبيين، وقد تأثرت الشاعرة نادية نواصر كثيرا بهته الشخصية ومآثرها
لدرجة أنها وظفتها ثلاث مرات ضمن قصيدة واحدة، وهذا يدل على ما تحمله شخصية
صلاح الدين من بعد أنساني وتاريخي كان ولا يزال يحمل أثرا عميقا في نفسية
الشعوب العربية، تقول الشاعرة
في قصيدة "كي يولد من موتاك عراق":
ترتسم الريح العابقة
برائحة الجرح كي يأتيك العراق
على فرس الفتوحات
يرقصون في مأتم
صلاح الدين الأيوبي[93]
هي بغداد إذن التي أصبحت عند الشاعرة مثالا للذل، فأين العراق التي كانت
تروي عطشها من نهري دجلة والفرات وتغتسل بمياهها الطاهرة، لكنها اليوم تسبح
في نهر الذل بعد أن احتلها الاستعمار، وظلت تنتظر العرب كي يأتوها ومحررين
لكنهم جاؤوها راقصين في مأتم صلاح الدين الأيوبي فأنى لهم ذلك وقد ماتت فيهم
النخوة العربية والشهامة والبطولة لكنهم يستذكرون دائما أن هناك بطلا فدا عاش
في زمن النخوة وأعاد للعرب قدسهم الضائع، فأين أنت اليوم يا صلاح الدين أم
أنك صرت مجرد ذكرى للعرب ببطولاتك وشهامتك وحلما بعيد المنال.
وعلى هذا الأساس تواصل الشاعرة قولها في القصيدة نفسها:
أغنية سماها القدر "بغداد"
خلفت لك يا ملحمة الحزن الكبرى
على طاولة الوقت ورقة...
"صلاح الدين الأيوبي"[94]
جرح بغداد سيظل ينزف دما مادامت الطاولة المستديرة قائمة وسط غرفة
الاجتماعات، والأيادي تتلاعب بالأوراق التي فوقها ويعزف زمنك أغاني الحزن
والأسى، فهذا قدرك بغداد على تلك الطاولة وفي متن سطور تلك الأوراق التي جسدت
زمن البطولات زمن الذي صنعها صلاح الدين الأيوبي، حين هب ثائرا لنجدة القدس
وتحريرها، لكن للأسف لم يبق للعرب من بطولاتك سوى استذكارها والتذكير بها،
فالشاعرة ظلت على طول القصيدة تتمنى أن يأتي صلاح آخر يعيد للعرب مجدهم
ومكانتهم الإسلامية بين الأمم، إذ تقول في القصيدة ذاتها:
غنّ كي يولد في منفاك ربيع
في صدرك وطن
وفي كفيك
عشب العشق الناعم ويبعث من حدائق بابل
صلاح آخر[95]
وسيظل هذا حلم الشاعرة وحلم كل عربي بأن يُبعث فيهم صلاح آخر ليشيد لهم
عراقا جديدا، بل فاتحا لكل الدول العربية التي لازالت تعاني من الظلم وجبروت
المستعمر، فيولد معه ربيع جديد مزهر بالحب والسلام ، وهكذا اتخذت الشاعرة من
"صلاح الدين الأيوبي" رمزا للإشعاع المتجدد الذي قد يحرك عمود الركود المخيم
على الأمة العربية، فمن جهة كان هذا الرمز وسيلة لإقناع القارئ ببطولات
الأبطال العرب الذين عاشوا في زمن مضى، وكان من جهة ثانية رمزا فنيا جسد
الصورة الشعرية من خلال تصوير رمزي منح للغة مسارا آخر داخل النص الشعري وهذه
غاية كل شاعر، كما اتخذت الشاعرة من الرمز الثوري الجزائري سبيلا لكشف زيف
الواقع الجزائري الذي عم فيه الظلم والفساد، فنراها تستنجد بالبطل
"العربي بن مهيدي" في قصيدة عنونتها بـ "عودة العربي بن مهيدي" تقول
فيها:
قام من مثواه الأخير
رتب ساعات الوقت
وقف على حافة الوقت
أطلق حسرتين
أواه يا وطني
وغنى "قسما"
"جزائر الأجداد"
وغادر حزيناإلى المثوى الأخير[96]
نهض من قبره يحلم بوطن جميل بربيع مزهر، لكنه صُدم بالحاضر أمامه في عتبة
الزمن، هذه حال البطل الثوري الجزائري الشهيد العربي بن مهيدي كما تصوره
الشاعرة، عاد من مثواه الأخير لوطنه الذي حرره بدمائه الطاهرة وجابه قوة
المستعمر في سبيل تحريره، فحرره من قيود الاحتلال لكنه وجده اليوم محتلا من
قبل شعبه فأحزنه تعدد أحزابه وأرهقه الظلام المتبدد في سماء الوطن فاحتار
وتحسر على ما أصبح عليه وطنه وجرحه الواقع والمجتمع الجزائري اليوم، فتذكر
رفاقه وجهادهم في سبيل تحرير هذا الوطن فغنى لوطن اليوم (قسما جزائر
الأجداد)، وليس جزائر اليوم التي قتلها أبناء شعبها وغادر حزينا إلى مثواه
الأخير بعد أن أسند ظهره إلى الوطن المكسور والمشوه من كل النواحي، وعاد إلى
ساحة الثوار أين سقط شهيدا رفقة إخوانه الشهداء الذين جاهدوا حتى الرمق
الأخير في سبيل هذا الوطن، فما بال هذا الوطن يظل جريحا وقد مات في سبيله
أكثر من مليون شهيد، فيا ليث الشهداء يعودون يوما ويحررون هذا الوطن من الظلم
والفساد كما حرروه من الاستعمار في زمن مضى، فقد كان العربي بن مهيدي هنا
رمزا لكل جزائري ضحى ولا يزال يضحي في سبيل وطنه الجزائر، ليت العربي بن
مهيدي يعود فيجد وطنه يزهو بألوان الربيع لا ظلام فيه ولا حزن بل أمانا وسلما
وأخوة، وهكذا تجلت الصورة الشعرية ضمن نصوص الشاعرة نادية نواصر بصورة واضحة، لتبني نصوصها بلغة شاعرية أضفت
على النصوص صفة الفنية والجمالية؛ فكانت المفردة الجزئية والتي تجسدت في
التشبيه الذي لا يمكن الاستغناء عنه لأنه دليل ومفتاح الصور الأخرى، كما جاءت
الصورة الاستعارية لتعبر للقارئ عن سلاسة وحيوية التجربة الشعرية عند الشاعرة ، كما تجسدت الصورة المرئية في النصوص الشعرية فكانت تارة متحركة وتارة أخرى
ساكنة، بالإضافة إلى الصورة الملونة التي كانت لها لمستها الخاصة في صناعة
الخطاب الشعري وانعكست
جمالياتها في تجسيد
رؤية الشاعرة داخل النص، في حين كانت الصورة الرمزية أكثر تجليا وطغيانا داخل النص الشعري حيث وظفت الشاعرة صورة الرمز الطبيعي (المطر، الريح، الشمس...)، كما تجسدت صورة الرمز الديني (يوسف، زليخة، إبراهيم...)، أما الصورة التاريخية فقد تجسدت من خلال توظيف الشاعرة لأسماء شخصيات بارزة في التاريخ العربي عامة والجزائري خاصة مثل (عنترة/عبلة، قيس/ليلى، صلاح الدين الأيوبي، العربي بن مهيدي...)
للعودة الى المقال السابق اضغط هنا
للانتقال الى المقال التالي اضغط هنا
[1]- عبد اللطيف أغجدامي، الصورة الشعرية، أهميتها
ووظيفتها، مجلة علامات، ع70، جدة، 2009، ص7،8.
[2]- عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر،
قضاياه وظواهره الفنية، دار العودة، لبنان، ط3، 1981، ص09.
[3]- عبد القادر القط، الاتجاه الوجداني في الشعر
العربي المعاصر، دار النهضة العربية، ط2، بيروت، 1981، ص391.
[4]- عبد القادر الرباعي، الصورة الفنية في النقد
الشعري، دراسة في النظرية والتطبيق، دار جرير للنشر والتوزيع، ط1،
عمان/الأردن، 2009، ص83.
[5]- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[6]- السعيد الورقي، لغة الشعر العربي الحديث،
مقوماتها الفنية وطاقاتها الإبداعية، دار النهضة العربية، ط3، مصر، 1984،
ص88.
[7]- وليد بوعديلة، شعرية الكنعنة ( تجليات
الأسطورة في شعر عز الدين المناصرة)، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، ط1،
عمان، 2008، ص379.
[8]- عز الدين إسماعيل، التفسير النفسي للأدب، دار العودة، ط4، بيروت/لبنان، 1988، ص100.
[9]- فواز بن عبد العزيز اللعبون، شعر المرأة
السعودية المعاصر، دراسة في الرؤية والبنية، ص496.
[10]- مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، دار الأندلس
للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، لبنان، 1983، ص48.
[11]- نعيم اليافي، تطور الصورة الفنية في الشعر
العربي الحديث، منشورات اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق، سوريا، 2008،
ص45.
[12]- نادية نواصر، أنا اللاجئة إلى أعشاب صدرك،
المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 2007، ص100، 101.
[13]- نادية نواصر، أنا اللاجئة إلى أعشاب صدرك،
ص103.
[14]- عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تحقيق
محمد الفاضلي، المكتبة العصرية، ط1، بيروت/لبنان، 1998، ص98.
[15]- نادية نواصر، حديث زوليخة، المؤسسة الوطنية
للفنون المطبعية، الجزائر، 2013، ص30.
[16]- نادية نواصر، المشي في محرابك، المؤسسة
الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 2013، ص15،16.
[17]- نادية نواصر، أنا اللاجئة إلى أعشاب صدرك،
ص66.
[18]- نادية نواصر، صدى الموال، موفم للنشر،
الجزائر،2013، ص 52.
[19]- نادية نواصر، صدى الموال، ص64.
[20]- رابح بوحوش،ا للسانيات وتطبيقاتها على الخطاب
الشعري، دار العلوم للنشر، عنابة/ الجزائر، 2006 ،ص 161.
[21]- عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، دار
المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1981، ص200.
[22]- أبو هلال العسكري، الصناعتين، تحقيق:علي محمد
البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، د/ط،
1986،ص295.
[23]- فايز الداية، جماليات الأسلوب، الصورة الفنية
في الأدب العربي، دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، ط2، 1996،
ص144.
[24]- نادية نواصر، صدى الموال، 2013، ص13.
[25]- نادية نواصر صهوات الريح، منشورات المكتبة
الوطنية، الجزائر، ط1، 2007، ص80.
[26]- نادية نواصر، صهوات الريح، ص11.
[27]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص44.
[28]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص42.
[29]- نادية نواصر، المشي في محرابك، ص54، 55.
[30]- السعيد بوسقطة، قضية فلسطين في الشعر الجزائري
المعاصر، دار الكاتب للطباعة والنشر، ط1، عنابة، 2014، ص294.
[31]- جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ص127.
[32]- محمد علي الكندي، الرمز والقناع في الشعر
العربي الحديث، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ط1، بيروت، لبنان، 2003،
ص28.
[33]- عز الدين إسماعيل الشعر العربي المعاصر،
قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، ص130.
[34]- رينيه وليك، أوستين وارين، نظرية الأدب، ط1،
تعريب: د/ عادل سلامة، دار المريخ للنشر، الرياض، المملكة العربية
السعودية، 1992، ص256.
[35]- نعيم اليافي، تطور الصورة الفنية في الشعر
العربي الحديث، ص169.
[36]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص25،24.
[37]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص34.
[38]- نادية نواصر، حديث زوليخة، ص102.
[39]- نادية نواصر، حديث زوليخة، ص16،15.
[40]- نادية نواصر، المشي في محرابك، ص12.
[41]- نادية نواصر، المشي في محرابك، ص18.
[42]- نادية نواصر ، صدى الموال، ص38.
[43]- نادية نواصر، أنا اللاجئة إلى أعشاب صدرك،
ص78.
[44]- خالد بن محمد الجديع، سيمياء اللون في الشعر
السعودي المعاصر، مجلة عالم الكتب، مج29، ع5، الرياض، السعودية، ماي2008،
ص443.
[45]-المرجع نفسه، ص459.
[46]- ظاهر محمد هزاع الزواهرة، اللون ودلالاته في
الشعر، دار حامد للنشر والتوزيع، عمان/الأردن، ط1، 2008، ص18.
[47]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص21.
[48]- نادية نواصر، صهوات الريح، ص41.
[49]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص70.
[50]- نادية نواصر، أنا اللاجئة إلى أعشاب صدرك،
ص85.
[51]- المصدر نفسه، ص93.
[52]- نادية نواصر، صهوات الريح، ص79.
[53]- نادية نواصر، أوجاع، وزارة الثقافة، الجزائر،
2007، ص19.
[54]- نعيم اليافي، تطور الصورة الفنية في الشعر
العربي الحديث، ص179.
[55]- ظاهر محمد هزاع الزواهرة، اللون ودلالته في
الشعر، الشعر الأردني، ص60.
[56]- نادية نواصر، صدى الموال، ص20.
[57]- نعيم اليافي، تطور الصورة الفنية في الشعر
العربي الحديث، ص180.
[58]- نادية نواصر، حديث زوليخة، ص19.
[59]- فرح غانم صالح حميد البيرماني، دلالة اللون في
الشعر النسوي العراقي المعاصر، مجلة الأستاذ، العدد203، بغداد، 2013،
ص491.
[60]- نادية نواصر صهوات الريح، ص90.
[61]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص10.
[62]- فرح غانم صالح حميد البيرمانني، دلالة اللون
في الشعر النسوي العراقي المعاصر، ص493.
[63]- عثمان حشلاف، الرمز والدلالة في الشعر المغربي
المعاصر، منشورات التبيين الجاحظية، الجزائر، 2000، ص7.
[64]- غنيمي هلال، الأدب المقارن، دار العودة، ط3،
بيروت، 1983، ص398.
[65]- إبراهيم رماني، الغموض في الشعر العربي
الحديث، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1991، ص273.
[66]- أدونيس، زمن الشعر، دار العودة، ط6، بيروت/
لبنان، 2005، ص269.
[67]- فايز الداية، جماليات الأسلوب، الصورة الفنية
في الأدب العربي، ص236.
[68]- نادية نواصر، أنا اللاجئة إلى أعشاب صدرك،
ص79.
[69]- نادية نواصر، حديث زوليخة، ص 10، 14.
[70]- عثمان حشلاف، الرمز والدلالة في الشعر المغربي
المعاصر، ص8.
[71]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب،17،16.
[72] للتوسع أكثر يُنظر دواوين: لبونة صهد القلب،
حديث زوليخة، أنا اللاجئة إلى أعشاب صدرك، صهوات الريح.
[73]- نادية نواصر، حديث زوليخة، ص90.
[74]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص29.
[75]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص30.
[76]- نادية نواصر، أنا اللاجئة إلى أعشاب صدرك،
ص92.
[77]- نادية نواصر، أنا اللاجئة إلى أعشاب صدرك،
ص110.
[78]- المصدر نفسه، ص99.
[79]- القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآيات،
66/67/68/69/70.
[80]- فتحي محمد أبو مراد، الرمز الفني في شعر محمود
درويش، وزارة الثقافة، عمان، الأردن، د/ط، 2004، ص233.
[81]- سورة مريم، الآيات، 23، 24، 25، 26.
[82]- نادية نواصر، أوجاع، وزارة الثقافة، الجزائر، 2007، ص101، 102.
[83]- سورة النجم، الآيات:13، 14، 15، 16، 17.
[84]- نادية نواصر، حديث زوليخة، ص72.
[85]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص39.
[86]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص85.
[87]- محمد علي الكندي، الرمز والقناع في الشعر
العربي الحديث، 126، 127.
[88]- المرجع نفسه، ص129.
[89]- محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، د/ط،
دار العودة، بيروت، لبنان، 1973. ص318.
[90]- نادية نواصر، حديث زوليخة، ص88.89.
[91]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص29.
[92]- نادية نواصر، لبونة صهد القلب، ص21.
[93]- نادية نواصر، أوجاع، ص69.
[94]- نادية نواصر، أوجاع، ص74.
[95]- المصدر نفسه، ص76.
[96]- نادية نواصر، صدى الموال، ص41إلى ص49.
تعليقات
إرسال تعليق