6. قراءة أسلوبية لشعر الأمير عبد القادر الجزائري :
قراءة أسلوبية لشعر الأمير عبد القادر الجزائري
من الثابت أن في مجال الدراسات التأويلية المعاصـرة هـو أن اللغـة صـارت فضاء للممارسة التأويلية، ومجالها الحيوي، حيث إن النص هـو بـؤرة التأويل الأسلوبي، وهذا اللون من القراءة النقدية يتبنى مبدأ الموازنة بين التحيز إلى جانب المبـدع وضـده في أن واحـد ، فالناقد في هذه المعالجة اللغوية للنص لا يتحـرك إلـا وفـق مستويات التحليل الأسلوبي (المستوى الصوتي، المستوى الصرف، والمستوى التركيبي والمستوى الدلالي)، وهـي مستويات تعكس
بحـق البنية الحقيقية للنص، ومحاولة مقاربة النص مـن هـذا المنظـور حـريـة بالكشف الموضوعي لخصائص النص الأسلوبية، فالقارئ محكوم بعلامات النص ومحدداته اللغوية، ولا يمكنه أن يحـول مسار القراءة إلى قراءة نوايا
الكاتب، ومحاكمته وفق صورة مسبقة قد تكون مشوهة أو محرفة.
فاللجوء لمسألة التحليل اللغوي المعمق في تناول النص ينفي التفسير الإيديولوجي الذي يرى في الكاتب وأفكاره إسقاطا لمذهبه العقدي، وما وجـد الـنص إلا ليقرأ، وقراءتـه تعني الغوص في أعماقه وتخومه، قصد استجلاء معانيه ومضامينه وسماته الأسلوبية، فلا يجد القارئ سوى العلل اللغوية المكونة للنص، ليحاورهـا وفـق منطـق لـغـوي يتخـذ مـن الـوصـف والتحليل الموضوعي وسيلة للتعامل معه
معظم النصوص برغم اختلاف ميادينها وموضوعاتها فإنها تعتمد اللغة أساسا لبناء وتشييد صرح المبنى النصي، وبذاك تعـد اللغة منطلقا رئيسا في مساءلة النصوص على تنوعها من حيث المضمون والشكل، ولعل النصوص الأدبية تعد الأكثر تشبعا وقابلية للقراءة لكون لغتها تحمل في طياتها قابلية للتأويل عبر ما تتمتع به من قدرة على الانزياح عن الدلالات الحمولة من قبل اللغة، ولذلك فالنص الأدبي يحمل في لغته شحنة إضافية يزيد بها عن النصوص الأخرى، وتزداد هذه الشحنة قوة مع النص الشعري الذي يكثف اللغـة ليتجـاوز بهـا حـدود التداول بمسافات شاسعة مقـدما فضاء دلاليا خصبا يمنح المتلقي إمكانات تأويلية كثيرة، ومن أجل ذلك كانت القراءة الأسلوبية تتوسع في رحـاب الـنـص مـن خـلال تلك "المقارية النقدية التي هي في حد ذاتها محاولة علمية قصد فهم حقائق النص وفق منظومـة مـن آليات التحليل اللغـوي" واعتمادا على النص انطلقت أغلب الاتجاهات النسقية الحديثة في قراءة هذه البنية اللغوية، فمـن البنيوية وانغلاقها على النص إلى نظرية القراءة والتلقي التي تعلي مـن شـأن المتلقي ، ظـل الـنص يتأرجح والكـل يحـاول قراءتـه مـن زاويـة مختلفـة لهـا أصـولها ومرجعياتها، وفي خضم هذه الاتجاهـات برزت الأسلوبية لكونهـا قـراءة في أسلوب النص وصاحبه، حيث حاولت تقديم رؤية جامعة لمختلف الاتجاهات التي عاصرتها ، فانطلقت من النص وساءلت لغته كما عمدت للبحث في الدلالة وما يرتبط بها من قضايا، بهذا لم تكتف بغلق النّص كالبنيوية بل حاولت ولوج ما له علاقة بالنص بشكل أو بآخر، محاولة أن تكون منهجا منتجا مستفيدة من التراث البلاغي خاصة عند العـرب مـن جهـة ومـن جهـة أخرى ما وصلت إليه الدراسات النسقية الحديثة.
ويفهم من الكلام السابق أن الأسلوبية ليست منهجا قائما بذاته ، مستوفيا لضوابطه المنهجيـة، بـل هـي ممارسة علمية تستعين في تحليلها للنص الأدبي بآليات منهجية مستمدة من علوم ومناهج أخرى (علم الدلالة ، علوم البلاغة، البنيوية، الإحصاء، المقارنة ، ...) على نحو ما أكده محمد عـزام الذي اتضحت رؤيته حول التحليل الأسلوبي بإمكانية تطبيقه على "نص أدبـي مـستقل أو نتاج لمؤلف أو مقارنات أسلوبية بإجراءات منهجيـة مختلفة منها : منهج إمكانيات النحو، ومنهج النظم ومنهج الكلمـات المفاتيح، ومنهج تحليل الانحراف ومنهج المستوى الوظيفي وغيرها .." والأمر المؤكد أيضا هـو أن الأسلوبية المعاصرة تدرس النص الأدبـي كله، وتعتبره بنيـة لغوية متكاملة، وهي تسعى إلى كشف الدور الذي قامت به كل بنية لغوية داخل بنية النص الكبرى. لذلك سنعمد من خلال هذه الدراسة إلى قراءة شعر الأمير عبد القادر الجزائري مستخدمين آليات هذا المنهج بمستوياته والتي هـي : المستوى الصوتي وكـذا المستوى التركيبي والمستوى الـدلالي، بالتركيز علـى قـصيدته المعنونة "بي يحتمي جيشي"، ومن خلال هذه القراءة سيتجلى لنا أسلوب الشعر الجـزائـري الحـديث عمومـا وشـعر الأمير عبد القادر على وجه الخصوص، وكيف أنه اتخذ لنفسه مكانة شعرية عربية وعالمية بإنتاجيته وفرادته المتميزة.
1.6. وقفة عند حياة الأمير عبد القادر :
ولد الأمير عبد القادر بـن مـحـي الـديـن عـام 1222 هـجـري الموافق لـعـام 1808 ميلادي ، في قرية القيطنة بولاية معسكر، بدأ حياته التعلمية على يد أبيه وبعض علماء بلدته، ولما كبر ارتحل إلى مدينة وهران، حيث تلقـى بهـا علوم اللغة والدراسات الإسلامية، وعند هجوم فرنسا على الجزائر قاد الأمير المقاومة الجزائرية المسلحة ضد الاحتلال الفرنسي مدة تزيد عن ست عشرة سنة، أثبت خلالها كفاءة نادرة وشجاعة منقطعة النظير، ولما استنفد ما عنده من وسائل الدفاع اضطر لأسباب داخلية وخارجية- إلى الاستسلام.
وسجن بقصر أمبواز بفرنسا ثم بعدها نفي إلى اسطمبول، ثم ذهـب إلى دمشق التي استقر بها مع أهله، واتخذها منطلقا لرحلاته المتعددة إلى القدس والحجاز ومصر وأوروبا.
فـالأمير بالإضافة إلى أنـه رجـل حـرب ودولـة هـو شـاعر وفقيـه ومتصوف، ترك آثارا مكتوبة أشهرها : كتابه المواقف في التصوف، وكتاب ذكرى العاقل وتنبيه الغافل، وديوان شعر يشتمل على مختلف الأغراض الشعرية المعروفة من فخر ونسيب وتصوف.
توفي بدمشق عام 1883م بعد أن ملأ الدنيا بشهرته التي اكتسبها بفضل جهاده المستميت ضد الاحتلال، وموقفه الإنساني السمح الذي أنقذ به آلاف المسيحيين من المذابح التي جرت بالشام عام 1860م، لينقل جثمانه بعد ذلك إلى أرض الجزائر عام 1966م.
الله لقـد ذهـب عبد الركيببي إلى الإشادة بما ثمنه النقد الحديث والدراسات بشأن شعر الأمير عبد القادر وشخصيته، حيث يرى أن في شعر الأمير عبد القادر من عناصر البلاغة الشعرية ما لا يمكن تجاهله، نخص تزكيته لصدق التجربة الشعرية عنده يقول : "وكان هذا الشاعر الفارس يقصد الأمير ينظر للحـرب نظرة البطل الشجاع، يتغنى بها وبشجاعته وبجنوده وبانتصاراته في المعارك بحيث يمثل شعره نفسيته في أوضح صورة للفارس العربي"، وهذا ما جعله يشترك ويشبه إلى حد بعيد بطل قبيلة عبس الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد فهو نسخة مصورة عنه حتى أننا لنكاد نجزم بأنه عنترة الثاني أو عنترة المغرب.
النص : يقول الأمير عبد القادر في قصيدته "بي يحتمي جيشي"
تـســائــــــــلـني أم الـــــــبـنين، وإنـها لأعلـم مـن تـحـت الـسماء بأحـوالي
ألم تعلمي يا ربـــة الخـدر أنـنـي أجـلـي هـمـوم القـوم فـي يـوم تجـــــــوالي
وأغشى مضيق المـوت لا متـهـيبا وأحمي نساء الحــــي في يوم تهـوالي
يثقن النسا بي حيثما كنت حاضرا ولا تنقـن في زوجها ذات خلخال
أمير إذا ما كان جـيـشـي مـقبلا وموقد نار الحـرب إذا لم يكن صالي
إذا مــا لـقـيـت الخيـل إنـي لأول وإن جـال أصحابـي فـإنـها لـها تـال
أدافع عنهـم ما يخافـــون مـن ردى فيشكر كل الخلق من حسن أفعالـي
وأورد رايــات الــطـعـان صـحيحة وأصـدرها بالــــرمـي تـــــمثال غربال
ومن عادات السادات بالجيش تحتمي وبي يحتمـي جـيـشي وتحـرس أبطـالـي
وبي تتفـى يوم الطعان فـــــــــوارس تخالينهم فـــــــي الحـرب أمثال أشبال
إذا ما اشتكت خيلي الجراح تحمحما أقول لهـا صبرا كصبري وإجــــــــمالي
وأبذل يــــوم الروع نـفـسـا كـــريمة على أنها في السلم أغلـى مـن الغالـي
وعنـي سـلـي جيش الفرنسيس تعلمي بأن مـــــناياهم بـسـيفـــــــي وعــســــالي
سلي الليـل عنـي كـم شـقـقـت أديـمـه علـى ضـامر الجنبـــــــن مـعـتـدل عـال
سـلـي الـبـيـد عنـي والمفاوز والــــربـي وسـهلا وحـزنا كم طويت بترحالي
فما هــمتي إلـا مقــــارعة العـدا وهـــــــــزمـي أبـطـالا شـــدادا بأبطالي
فلا تـهـزئـي بـــي واعلمـي أنـنـي الـذي أهـاب ولـو أصبحت تحـت الـثـرى بـالـي
آثرنا تحليل نص واحـد مـن نـصـوص شـاعرنا الأمير عبد القادر وفق المنهج الأسلوبي مثلما فعلـه عبـد السلام المسدي حـيـن حلـل نـصـا واحـدا للشاعر المصري أحمد شوقي، ولذلك وقع اختيارنا على هذه القصيدة (بي يحتمي جيشي) لما حملته من بطولات ومظاهر وصور فنية جميلة لكل ما لـه بـشجاعة الأمير عبد القادر، وكيـف أنـه مـزج فيهـا بـين روح الفـخـر والإشادة بالبطولات وبين الأداء الفنـي المـاتـع الـذي جـاءت بـه نصوصه الشعرية، وهذه القصيدة نظمها لما انتصر في إحدى معاركه على العدو الفرنسي بقيادة الجنرال لاموريسيار وما ألحقه به من هـزائم وإذلال، وجعل يتحدث فيها عن هذه الانتصارات ويزفها إلى زوجته أم البنين يطمئنها بذلك.
2.6. المستوى الصوتي : إن البنية الصوتية والإيقاعية هـي أول المظاهر المادية والحسية للنسيج الشعري التي يمكن التعـرف مـن خلالها على الوحـدات الصوتية، ومـا فيهـا مـن التوازيـات والبدائل ومـن التآلفـات والمتنافرات وغير ذلك.
1.2.6. البنية الصوتية : هناك أصوات تشكل عناصر مهيمنة على النص وتصنع إيقاعه وهي :
صوت الميم بأربعة وخمسين (54) مرة، وصوت اللام ورد حضوره ثلاثة وخمسين(53) مـرة وهـو يـشـكـل حـرف الـروي للقصيدة، وصـوت النـون بأربعين (40) مرة، وصوت الـراء الـذي لمسنا بـروزه هو الآخر بعشرين (20) مرة، وكذلك صـوت الستين بسبع عشرة (17) مرة، وميزة هذه الأصوات أن الميم واللام حرفـان واسعا الانفجار، مجهـوران ومنفتحـان“، بينما حرف النون لثوي مجهـور ومنفتح متوسط وظفه الشاعر في أغلب الأبيات للتحسر والأسـف والحـزن، وفي مقابـل ذلـك كـان لـصـوت اليـاء النـصيب الأكبر في الحضور في جل أبيات القص ومن ميزته أنـه حـرف رخـو مجهـور ومنفتح، ملائم لنفسية الشاعر في هذا المقام عائد على شخصيته في نفس الوقت، وهو مقام فخر واعتزاز وإشادة لتبيان حضور الأنا والذات في نصه، وإن كان هذا الصوت ضمير مزدوج بين ذات الشاعر وذات المتلقي ألا وهـو زوجـه الـتي راح يحاورهـا ويشاركها حالته النفسية (تسائلني تعلمـي، سلي ترحالي، تهزئي الني، اعلمي أبطـالـي...الخ) حيث تجلت ثنائيـة الحضور والغياب بين الشاعر وزوجه التي راح يقاسمها وجوب العلم والتغني بفروسيته وبطولاته في ميادين الحروب.
2.2.6.البنيـة الإيقاعيـة : اعتمـد الأمير عبـد القـادر بحـر الطويـل لقصيدته لما يتواءم مع حالات الفخر، والإشادة بالبطولات، ولأن شاعرنا من المقلدين الذين عرفوا مبادئ الشعر العربي القديم ومقوماته بني نصه على هذا البحر الشعري والذي قال عنه العروضيون أنه "ليس بيـن بحـور الشعر ما يضارع هذا في نسبة شيوعه، فقد جاء ما يقرب من ثلث الشعر العربي القديم من ها الوزن".
يقول :
وأغـشـى مضيق الموت لا متهيبا وأحمي نساء الحي في يوم تـهــــوال
وأغـشى مضيق لموت لا متهييبن وأحمي نساء لحيي فـي يـوم تهـوالــي
//0/0 //0/0/0//0///0//0//0/0 //0/0/0//0/0//0/0/0
فعولن مفاعیلن فعول مفاعلن فعولن مفاعیلن فعولن مفاعیلن
واختيـار بـحـر الـطـويـل لـيس بالضرورة أن ذلـك لـه عـلاقـة بـالغرض الشعري، لأن العلاقة الحقيقة والارتباط الفعلي إنما يكونان "بين الموضوع والإيقاع الذي يمثل حركة النفس وحالاتها ، ومناسبة الإيقاع لقدر المشاعر التي تختلج شعور الشاعر أثنـاء بناء قصيدته، فالموضـوع يختار إيقاعـه، ودرجـة تـدفق نغماتـه ليـستكمل بذلك تشكيله الـذي لا تنهض بـه اللغة بهدف إحداث تأثيري متلقيه.."48.
3.2.6. البنية المفرداتية : تغلب الأفعال على نص الأمير عبد القادر لما فيها من دلالة على الحركة والاستمرار والتجدد وهذه إحـدى ميـزة الأفعال الغالبة على أي نص، مثل في قوله : "تعلمي، أجلي، أغشى، يتقن، أورد ، أدافع، يخافون، أصدرها ...الخ)" ولما فيها أيضا من حيوية واستمرارية الحـرب ومشاهدها ، فالأمير عبد القادر اعتـاد خـوض المعارك ولا ينـام لـه جفن حتى يلحق الهزائم الكبرى بالعدو الظالم، وكل مرة تتكرر معه المشاهد القتالية ويصفها ويصف ما قام وما سيقوم به إزاء هذه النكبات.
كما نميز بين طبيعة الأفعال الواردة بين التي هي في الزمن الماضي (كنت حاضـرا ، ألم تعلمـي، لقيـت الخيـل، اشتكت خيلـي، طويـت بترحالي، أصبحث تحت الثرى...) وهذا ما يبين أن رحلة الشاعر مع الحروب حدثت فعلا ويتأكد وقوعها حين يسرد لنا تلك الأحداث مـن خـلال هذه القوالب الشعرية، وبين تلك الأفعال التي هي في زمن المضارع والتي طغت علـى نـص الأمير (يحتمـي جيـشي، تحـرس أبطـالـي، تهزئـي بـي، ابذل يـوم الروع، أحمي نساء الحي، أجلي هموم القـوم، أغشى مضيق الموت، أدافع عنهم، أورد الرايات ...الخ) للدلالة على التجدد والاستمرار خاصة وأن الحرب يستمر لظاها لكثير من الزمن.
3.6. المستوى التركيبي : يتنوع التركيب في نص الأمير عبد القادر بين معنى الثبات الذي تمثله الجملة الاسمية في قوله : (أمير إذا مـا كـان، موقد نار الحرب، ..) وجمل أخرى دخلت عليها نواسخ مثل إن وأخواتها في قوله : (أن مناياهم، إنها لأعلم، إني لأول، فإني لها تال، ..) والملاحظ ورود الجمل الاسمية بنسبة قليلـة مـمـا يـوحـي بـأن حركة الثبـات لـدى شـاعرنا داخلية فهو في مقام فخر وإشادة بفروسيته وبطولاته وبطولات جيشه، وهذا مقام لا يثبت إلا عند الأبطال كشاعرنا وفارسنا، وأما الجمل الفعلية علي
تنوع أزمنتها بين ماض ومضارع وأمر، والتي طغت على معظم أبيات النص تجلت مـن خـلال قوله : (أغشى مضيق الموت، أحمـي نساء الحي، أجلي هموم القوم، أدافع عنهم، أورد الرايات ، أبذل يـوم الـروع، اشتكت خيلي الجـراح، سـلـي الليـل ، ...) ودلالتهـا ترجع إلى حركة الشاعر في ساحات الحروب، والحروب عند الشاعر تمثل رحلة بالنسبة له، لأن دلالة الأفعال المضارعة خاصة توحي بالحركة، وهي حركة مستمرة، وتمتد من الماضي إلى الحاضر فإلى المستقبل.
وقد تم الربط بين هذه الجمل بالقرائن اللغوية كحرف الواو الذي تكرر للدلالة على الحال مرة واحدة في قوله (وإنها لأعلم..) وبدلالة العطف بثماني مرات، وبدلالة الاستئناف زهاء اثنتي عشرة مرة، وهذا يعني تـوالـي هذه الأحداث في نص الشاعر وترتيبها بشكل متصل يعكس حركة نفسية يتداخل فيها الزمان والمكان والأحداث والأشخاص.
وفي النص بنيـة أخـرى نسـتـشـفهـا مـن خـلالـه ألا وهـي بنيـة الـسترد ، فالأمير عبد القادر يسرد أحداثا متعلقة ببطولاته (أجلي، يـوم تـجـوالي، أغشى مضيق، أحمي، لقيت، أدافع، أورد...الخ)، حيث يقوم النص على عنصر السرد والقص موظفا ضمير المتكلم البارز بقـوة في ثنايا النص، العائد على الشاعر، وأتبعه بضمير المخاطب المجسد في حرف الياء الذي يعود على زوجه أم البنين (تعلمي، سلي، تهزئي، اعلمي) للدلالة على أن الخطاب موجه إليهـا بـدافع الإخبـار والتأكيد، وهنـا عنـصـر المزواجـة في النص الذي حضر بركنيه : المخاطب (الأمير) والمخاطب (زوجه أم البنين).
1.3.6. التقديم والتأخير : من المباحث التي تحقق العدول على مستوى التركيب بدافع إحداث الجمالية الخطابية في النص، وهو تقنية مرتبطة بالشعر ارتباطـا شـديدا، كونه انزياحـا عـن الـنمط العـادي أو الترتيب الأصلي، يقول الجرجاني : "هـو بـاب كثير الفوائد ، جم المحاسن، واسع التصرف، ..... ولطف عندك أن قـدم فيـه شـيء وحـول اللفظ عن مكان إلى مكان"، والتقديم والتأخير سمتان أسلوبيتان قد يكونـان لـغـرض مـعنـوي
أو فني وبالتالي ينتج عنهما ذلك الأثر الجمالي، فنلحظ في قول الأمير : يتقن النسا بي حيثما كنت حاضـــرا *** ولا تنقني زوجها ذات خلخال
قدم الأمير هنا الجـار والمجرور (ي زوجها) على التوكيـد اللفظي للفاعل (ذات)، لإبراز دوره في حماية الشرف العـربـي مـن غـزاة العدو، وأن النسوة صرن تيقن 4 شجاعته وفي حمايته لهن.
وفي قوله :
ومن عادات السادات بالجيش تحتمي *** وبي يحتمي جيشي وتحرس أبطالي هنا تقديم الخبر شبه الجملة على المبتدإ المقـدر الاحتماء بالجيش، وكـذا الجـار والمجرور (بـي) على الفعـل (يحتمـي) للدلالة على التميـز بالشجاعة والقوة الفردية التي يمتلكها الأميرة سبيل الدفاع عن جيشه مخالفا ما كانت تقوم به قادات الجيوش الأخرى.
وكذا تقديمه للظرف على المفعول به (نفسا)، والجار والمجرور على
خبر أن (أغلى) في قوله :
أبدل يـوم الروع نفسا كريمة *** عـلى أنها في السلم أغلى من الغاليى
وهـذا دلالة على قيمة التضحية بالنفس وتبيـان مكانة الجهـاد ، خصوصا وأن الأمير لا يبالي كونه بطلا لا يهاب خوض غمار الحروب إذا بذل هذه النفس في الجهاد وفي سبيل الله.
إذن فقد عمد الشاعر إلى هذا الضرب من الأسلوب في التعبير فقدم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم "من أجل تحقيق أبعاد نفسية معينة تنبع من طبيعة التجربة الشعورية والمعنى المراد نقله"، حيث تميزت عبارات الشاعر بالوقع الجمالي والأثر الفني، كما أنها كشفت عن الكثير من المميزات المزاجية التي حددت شخصية الأمير عبد القادر.
2.3.6. الحذف : هو الآخـر ظـاهرة وسمة أسلوبية، ومن عادة العرب ألا تحذف شيئا إلا إذا أبقت في النص دليلا عليه، يقول عبد القاهر الجرجاني : "هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك تـرى به ترك الذكر أفصح من الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطـق مـا تكـون إذا لم تنطق، وأتم مـا تكـون بيانا إذا لم تين"، ومن أمثلة الحذف ماجاء في قول الشاعر الأمير عبد القادر :
تسائلـــــنـي أم البـــنــــين وإنهـا *** لأعلم من تحت السماء بأحـوالي
والتقدير (كانت تسائلني أم البنين أو مازالت تسائلني أم البنين) فتقدير الفعل الناقص المحذوف دلالة على سيرورة واستمرار حيرة المخاطب بشأن حياة البطل الذي يفصل بينه وبينها عامل الزمن بدافع السؤال عن نجاته وأحواله. وفي قوله أيضا :
أمير إذا مــــــا كان جيشي مقبلا *** وموقد نار الحرب إذا لم يكن صالي والتقدير (أنا أمير) (أنا موقد نار الحرب)، حذف الضمير الذي يحتل موقع الابتداء وبقي المسند فقـط (أمير، وموقـد) لإبراز المكانة الرفيعة السامية التي لا يحتاج فيها الأمير للتعريف بنفسه، وإيصال فكرة واحدة للمتلقي ألا وهي أنه هو الأمير في الحروب بلا منازع.
وأيضا من أشكال الحذف حذف العامل للمفعول المطلق في قوله :
إذا ما اشتكت خيلي الجراح تحمحما *** أقـول لـهـا : صبرا كصبري وإجمالي" فهنا نلمس حذف العامل المقدر (اصبري) وحذف المنادي وأداة النداء المقدرتين في قوله( ياخيلي اصبري) بدليل اعتياد الخيل مصاحبة الأميري كل زمان ومكان وفي نفس الوقت تأكيد على حملها على الصبر، وفي ذلك لا يحتاج مخاطبتها أو أمرها فهي معتادة هذا الصبر والرباط في سبيل الجهاد خدمة وطاعة لفارسها، وهذه من البراعة الفنية الأدبية للشاعر أن يأتي السياق على هذه الشاكلة بغرض تقوية المعنى والدلالة عليه.
4.6. المستوى الـدلالي : يقـوم نـص الشاعر الأمير عبد القادر على التصوير أو البنية التصويرية ، إذ العمل الأدبي لا يستغني عن هذه البنية لـما لها من الأثر الجمالي في تقديم المعاني من المرحلة العادية إلى مرحلة التأثير الذي يعتمـد علـى مقومات الجمال في توظيف اللغة، فالصورة "هي أداة الخيال ووسيلته الهامة التي يمارس بها ومن خلال فعاليته ونشاطه"، لأن الصورة تبقى أساس البناء الشعري والأدبي إضافة إلى اللغة الشعرية التي تمثل إحدى المقومات الرئيسة للعمل الأدبي، مع ذلك فالصورة في تشكيلها تعتمد على اللغة باعتبارهـا اللبنة الأساس لأي عمـل إبـداعـي وفتي، ولأن الشعر في غالبيته قائم على التصوير، والشعر في نظر كولريدج" من غير مجاز يصبح كتلة جامدة ذلك لأن الصور المجازية جزء ضروري مـن الطاقة
التي تمد الشعر بالحياة"، وهذا التصوير يسهم في كشف جوانب مهمة وخفية من التجربة الإنسانية.
والخطـاب الـشعري نص مثقـل بـالبنى التشبيهية والكنايات ومتعـدد الأبعاد ينهض بفعل الإيحاء وطاقات اللغة التعبيرية وقدرتها على إنتاج المدلولات لذلك ردد بول فاليري حول الشعر بأنه "لون من الرقص بالكلمات ونظـام مـن الأفعال له هدفه في حد ذاته"2". والخطاب الشعري غالبا ما يذهب في اتجاه مفارق للواقع بفعل اللغة التي يجعلها مادته الأساسية في تشكيل عالمه ويضيف عليها حياة جديدة، فضلا عن إضفاء نـوع مـن قـواعـد البلاغة العربية للوصول بتلك اللغة وتراكيبها إلى جوهر العمل الأدبي والشعري خاصة. فالشاعر الأمير عبد القادر يرسم لنا مشاهد الحروب وينقلها لنا في صور يتحرك فيها الحدث الحربي، والحدث التخاطبي بينه وبين زوجه وبين نتائج الحـدث مـن قـهـر الـعـدو الفرنسي، فهو يستعمل صـورا بلاغية أحيانا كالتشبيه، والاستعارة والكناية والرمز.
ومن أمثلة البنى التشبيهية التي حضرت في شعر الأمير عبد القادر قوله :
وأورد رايــات الطعان صحيحة *** وأصـدرها بالرمي تمثال غربـال
فرايات الحرب قبل بدء المعركة تكون بشكلها السليم ولكـن بعـد اشتداد الرحى ومن كثرة الطعن تصبح كتمثال الغربال الذي يحوي ثقوبا كثيرة وهنا حالة الطعن المتعدد مثل الثقوب في الغربال للدلالة على رسم الصورة الحية لنتائج المعركة. يقول :
وبي تتقى يوم الطعان فوارس *** تخالينهم في الحرب أمثال أشبال
حيث رسم صورة لفرسانه وجيشه بصورة أشبال الأسود، فذكر أركان التشبيه من مشبه ومشبه به والأداة، خصوصا عنـدمـا قـال بـأن هـذه الأشبال تحتمـي بـه للدلالة على أنـه هـو الأسد الهصور الذي يحمي أبناءه الأشبال من كيد الأعداء، وهذا يدل على أن الشاعر الأمير عبد القادر استمد في تشكيل بناه التصويرية من ممارسات ومعايشات خبرها وعرفها ، فجاءت تشبيهاته مادية وحسية بعيدة عن تلك التشبيهات العقلية والمعنوية. أما الكناية فكان لها حضور بارز في نص الأمير عبد القادر، حين يقول : (تعلمـي يـا ربـة الخـدر، ذات خلخال ) كناية عن زوجه، والعـرب تكنـي عـن المـرأة الجميلة بربـة الخـدر وذات الخلخال، وفي مواضع أخـرى نجده يكني عن الحرب بقوله : (مضيق الموت، يـوم تهـوالي، يوم الطعان، يـوم الـروع) لتزيـد مـن شـاعرية القصيدة، وتغني معانيهـا وتعمق دلالتهـا وتؤكـدها، ولأن مـن أسـرار بلاغة الكناية وجماليتهـا أن يكون التلميح فيها أبلغ من التصريح، وهذا ما يحدث وقعا وأثرا جماليا لدى القارئ.
1.4.6 الحقل الدلالي في نص الأمير عبد القادر : الحقول الدلالية تلك المجموعة المعينة من المفردات التي تدل على مفهوم واحـد وهـي : "مجموعة الكلمات التي ترتبط دلالتها ضمن مفهوم محدد أو هو قطاع متكامل من المادة اللغوية يعبـر عـن مجـال معين من الخبرة والاختصاص"، وفي نص الأمير عبد القادر تنوعت وتعددت الحقول الدلالية بين حقل الطبيعة، وحقل المرأة، وحقل الحرب، فالبني الطبيعية تمثلت في قوله : (السماء، الليل، اديم، البيد، المفاوز، الربي، سهل، حزن، الثـرى) التي توحي بمشاركة الطبيعة في حرب الأمير ضد الغزاة، والعرب قديما لا تنكر فضل الطبيعة في ذلك، ومنهم الشعراء كعنترة ، وأبي فراس الحمداني، والمتنبي وغيرهم من الذين تغنوا بالمظاهر الطبيعية ومشاركتها في الحروب.
وحقل المرأة تمثله الألفاظ الآتية (أم البنين، ربة الخدر، ذات خلخال، نساء الحـي) دلالة على الحالة الوجدانية للشاعر مـن لـوعـات الاشتياق والحنين لمحبوبته التي خلفها وراءه.
حقـل الحـرب أو كمـا يمكن تسميته بحقـل الفروسية أيضا وهـو الحقل الأبرز في نص الأمير بل حتى نصوصه الشعرية الأخرى، فالأمير عبد القادر قضى حياته مجاهدا محاربا وقائد الحروب، كيف لا وهـو يتعامل مع هذه الألفاظ كل حين وكل مرة، فنجد يذكر (أغشى مضيق الموت، موقـد نـار الحرب، أورد رايات الطعان، لقيـت الخيل، الجيش، أبطالا ، السيف الفوارس...الخ) بما يوحي أن إيقاد الحروب ومقارعة الأعداء كان الشغل الشاغل للأمير عبد القادر، وبالتالي لا نكاد نألف بيتا شعريا مـن نصوصه إلا ونجده يتغنى ويورد التعابير المرتبطة بالحرب.
خاتمة
من خلال ما قدمنا من دراسة أسلوبية للخطاب الشعري الجزائري الحـديث وخاصـة شـعر الأمير عبد القادر في نصه المعنـون "بـي يحتمـي جيشي"، توصلنا إلى ما يلي :
- أن الأسلوبية علـم مـازال يصبو إلى التطـور، وذلـك مـن خـلال احتكاكها بالعلوم والمناهج الأخرى كالسيمياء والتأويل وغيرهما.
- أن الخطاب الشعري الحديث وخاصة الخطاب الجزائري لا يرفض التعامل مع المناهج النقدية المعاصرة، بل هو في أمس الحاجة إليها، بخاصة أنها تمنحنا فهما أكثر عمقا وأوسع أفقا للنص الشعري الـذي هـو ولـيـد لحظة معينة، بتجدد قراءاته التي تبعثه من جديد مع المحافظة على أصالته
في الحين نفسه ، دون فقدانه لانشائيته وهذا سبب خلود الأدب.
- إن الخطاب الشعري لدى الشاعر الأمير عبد القادر وخاصة نصه الذي كان موضوع التحليل الأسلوبي رأينا كيف أنه تميز ببنيته الصوتية والإيقاعية المتميزة، مما أدى بالأمير إلى توظيف كل المستويات اللغوية الأسلوبية للتعبير عن تجربة ذاتية خالصة، وهي تجربة الحروب والبطولات والإشادة والتغني بها. مما جعل خطابه بل وحتى خطاباته الأخرى في معظم ديوانه تحفة فنية أدبيـة متميزة تمتد من الماضي العتيق إلى حاضرنا فإلى المستقبل،
ومـن التوصيات : أنـه يجـب الإطـلاع علـى دواويـن شـعراء العـصـر الحـديث بتأمـل وروية لاستنباط مـا في خطاباتهم الشعرية مـن بـلاغـة وتراكيب أسلوبية فريدة، وكلما بحثنا أكثر وجدنا المزيد من الأفكار وكشفنا عن الغامض من الأسرار.
إلقاء الضوء على دواوين وقصائد الشاعر الأمير عبد القادر الجزائري بما تحتويه خطاباته من جماليات لغوية وفنية مختلفة، ففيهـا مـن الفـرادة والتميز ما يروق السامع ويبهر المتلقي.
لقراءة الجزء السابق اضغط هنا
تعليقات
إرسال تعليق