القائمة الرئيسية

الصفحات

دلالة البنية الأسلوبية في الخطاب الشعري الجزائري الحديث - قراءة في شعر الأمير عبد القادر الجزائري -

 1. الأسلوب والأسلوبية ونحو مساءلة المفهوم : 

1.1. الأسلوب لغة :

حين نأتي للمعاجم العربية للنظر في لفظة أسلوب نجـدهـا مأخوذة من الجذر (سلب)، فهي عند ابن دريد : "سلبت الرجل وغيره أسلبه سلبا ، وقالوا : سلبا (بضم الستين) وسليب ومسلوب، والأسلوب : الطريق، والجمع أساليب"، وفي لسان العرب : "الأسلوب وهو السطر من التخيل، وكـل طـريـق ممتد فهـو أسلوب، والأسلوب هـو الوجه والمذهب، والفن، حتى ليقال : فلان أخذ في أساليب من القول، أي في أفانين"..

أما لفظة أسلوب * في اللغة اللاتينية فهـو مقابل "للفظـة اسـتيلوس stylus (الإزميل) أو (المنقاش) المستخدم في الحفر والكتابة، وقد استخدمه اللاتنيون - استيلوس - مجـازا للقصد بهـا علـى شـكلية الحفر أو شكلية

الكتابة، ومع توالي الزمن استقرت على دلالتها الاصطلاحية لتدل بذلك على الطريقة الخاصة للكاتب في التعبير عما يريد.

2.1. اصطلاحا :

إن الأسلوب يعـد مـن المصطلحات البلاغية المرتبطة بالأدب ارتباطا وثيقا ، كما ارتباطه أيضا بالعديد من الموضوعات اللغوية في الدراسات الحديثة، وقـد عـرف هـذا المصطلح تعـددا في التعريفات واختلاف الآراء بشأنه قديما وحديثا، حيث تستقر الدلالة الاصطلاحية لمفهوم الأسلوب على "أنـه كيفيـة الكتابـة مـن جهـة ومـن جهـة أخـرى الطريقة الخاصة بكاتب ما ، أو جنس ما"، فضلا عن تعدد التعاريف منها ما يرتبط بالمبـدع نفسه كما رأى بوفـون بـأن الأسلوب هو الرجل نفسه لأنه مرتبط بطريقـة صاحبه في تشكيل لفتـه الـشاعرية والـتـي تميـزه عـن غـيـره مـن المبدعين وكذلك "مظهر الفكر" أي أن الأسلوب طريقة ونمط خاص، يصنع تميز المبدع في التعبير عن العالم الخارجي بلغة تخييلية مؤثرة فيها انحرافيـة عـن النمط المألوف تدعو للدهشة وتترك أثر لدى المتلقين.

ومـن التعاريف مـا هـو مـرتبـط بـالنص ذاته كونه بنية داخلية مغلقة وهـذا "باعتباره انحرافـا عـن قاعـدة يمكـن أن تتمثل في المستوى العـادي المألوف، أو بـروزا واضحا لخـواص نوعية في جسد الكتابة تتبلور فيهـا المعالم المميزة له"، فالأسلوب بهذا الشكل يمثل كسر لنمطية اللغة العادية نحـو لـفـة جمالية وفنية، شرط أن لا يحيـد عـن إطـار الـنـص الـذي يحتوي مختلف هذه القيم التعبيرية.

ونجد من يعقد مفهوما للأسلوب انطلاقا من شخصية المتلقي أو القارئ، خاصة وأنـا نستحضر في هـذا المجـال رواد مدرسة التلقـي الـذين يـولـون عنـايتهم الكبرى بالمتلقي لكـونـه هـو "الـذي يميـز بـيـن الخـواص الأسلوبية ويدركها ويكشف انحرافها وبروزهـا عـن طـريـق مـا تحـدثـه مـن أثر وما تقوم به من وظيفـة"، وألفينا ميشال ريفاتير يذهب إلى أن الأسلوب يمكن إبرازه من خلال النص الأدبي الذي بواسطته تتم عملية "إبراز بعض عناصر سلسلة الكلام، ويحمل القارئ على الانتباه إليها بحيث إن غفـل عنها يشوه النص، وإذا حللها وجد لها دلالات تمييزية خاصة، بما يسمح بتقرير أن الكلام يعبر والأسلوب يبرز""، وعليه فالقارئ هـو الـذي يتكفل

بمهمة الكشف عن الخصائص الأسلوبية داخل الخطابات الأدبية، فيعيد بذلك بناء الأفق الجمالي للنص من منظوره الخاص. 

2. مفهوم الأسلوبية :

إن المفهوم النقدي المتعارف عليه بشأن الأسلوبية هـو أنها ذلك العلم الذي يهتم بدراسة الخصائص اللغوية التي بها يتحول الخطاب عن سياقه الإخبـاري إلى وظيفته التأثيرية والجمالية، وفي مقـام آخـر الأسلوبية هـي "دراسـة الأسلوب دراسة علمية في مختلف تجلياتـه الـصوتية والمقطعيـة والدلالية والتركيبية والتداولية، مع استكشاف خصائص هذا الأسلوب الأدبي وغير الأدبي، مع جـرد مواصفاته المتميزة وتحديد مميزاته الفردية واستخلاص مقوماته الفنية والجماليـة". وبذلك تعـد الأسلوبية إحـدى مجالات نقد الأدب اعتمادا على بنيته اللغويـة دون مـا سـواهـا ، لأنها تعنى بدراسة النص ووصف طريقة الصياغة والتعبير فيه.

والأسلوبية أسلوبيات تحكمهـا اتجاهـات متنوعـة منهـا الأسلوبية التعبيرية لشارل بـالـي وهـي عبـارة عن دراسة علاقات الشكل مع التعبير وهي لا تخرج عن إطار اللغة والحدث اللساني المعبر لنفسه كما أنهـا جـزء مـن اللسانيات لأنهـا تنـظـر إلى البنـى ووظائفهـا داخـل النظـام اللغـوي ، ولارتباطهـا بعلم الدلالة أو بدراسة المعـانـي" عـن طـريـق وقائع التعبير على أحوال الفكر، وهناك الأسلوبية النفسية أو الفردية لسبيتزر وهـي تتناول النصوص الأدبية لا غير، وعليهـا قلـت الأسلوبية مـن لغوية إلى جمالية ، والأسلوبية البنيوية لريفاتير والأسلوبية الإحصائية لبوزيمان وغيرها، ولكل أسلوبية منهجها وإجراءاتها ومستويات تركز على تحليلها.

 3. بين البلاغة والأسلوبية :

رغـم كـل مـا قيـل بـشـأن البلاغة والأسلوبية ومـا ظـهـر مـن دراسـات نظرية وتعـدد الـرؤى حولهما إلا أن ذلك لم يمنـع مـن التمييـز بـيـن هـذين العلمين ومحاولة الوقوف عند أهـم النقاط والأساسيات التي يرتكز عليها كل منهما ، فالبلاغة "علم معياري يسير وفق قوانين مطلقة لا تعرف التغير أو الانحراف بحسب البيئة والـزمن، بينما الأسلوبية علـم وصـفـي مـادتـه الأساس هـي التأثيرات الوجدانية"، وعبد السلام المسدي استوقفته هـذه المسألة ومحاولة البحث في طبيعة العلاقة بين البلاغة والأسلوبية ، التي راح

يقـول عنهما : "الأسلوبية امتداد للبلاغة ونفي لها في الوقت نفسه، فهي بمثابة حبل التواصل والقطيعة في نفس الوقت أيضا" ، لأنه في نظـره وحتى نظر النقاد إجماعهم على أن الأسلوبية حلت بديلا مكان البلاغة إلا أنهمـا يفترقان في نقـاط أساسية كتلك التي ذكرناهـا سـابقا ، كـون البلاغة معيارية تعليمية تعتمـد فصل الشكل عن المضمون في الخطاب ، بينمـا الأسلوبية علـم وصـفي تعليلـي يـرفض الفـصـل بـين دال الخطـاب ومدلوله، أي أنهـا تـدرس النص كاملا محاولة العبث بنسقه الكلـي والداخلي باعتباره - النص - كيانا لغويا واحدا بدواله ومدلولاته.

ويتجه البحـث البلاغي إلى "الاختصاص بنـوع مـن الكـلام ألا وهـو الكلام الأدبي، أما التحليل الأسلوبي فيشمل كل أجناس الكلام ، ولذلك لاهتمام البلاغة بالشعر والنثر على حد سواء ومعالجتهما بمعايير بلاغية معينة، فالأسلوبية تعالج كل أشكال الكلام بالتركيز على طريقة الأداء التي تظهر من خلال الأدوات المستعملة في التعبير والفاعلة في هـذا الكـلام. إضافة إلى ذلـك البلاغة والأسلوبية تعالج كـل منهما "الوظائف اللغوية التي تحملها الوسائل التعبيرية إلى واقع المتلقي، ولكن الأسلوبية تعالج المفردات والجمل، والمقاطع، والنصوص معالجة تكوينية بنائيـة ضـمن سياقاتها المختلفة، في حين البـلاغـة تعـالج تلك الوظـائف معجميا، وتركيبيـا، وصـوتيا، ومـن حيـث صحتها وفصاحتها ومـدي مطابقتها لمقتضى الحال""، ولكن برغم تلك المفارقات بين الأسلوبية وعلم البلاغة ليست العلاقة بينهما علاقة وراثة فحسب، ولكـن هـي محاولة تجديد الفكـر وإخراجـه بطـابع حـداثي، ليساير التطور الحاصـل لـعـلـوم اللغة، وبالتالي لا ننفي استناد الأسلوبية على علوم البلاغة في بنائها لأسسها ومعالجة قضاياها ، وأيضا لا يمكننا أن نجزم بوراثة الأسلوبية لذلك العلم الكبير الذي وضع لنا معايير وضوابط محكمة للتفريق بين كـل مـا هـو ضعيف وركيك وبين ما هو جيد وبليغ من الأساليب. 

4. الأسلوبية منهج لتحليل الخطاب :

إذا كـان الباحثون العـرب قـد درسـوا الأسلوبية الحديثة وعلاقاتها باللسانيات، في إطار تأثرهم بالثقافة الوافدة فإن نظـريـة تحليل الخطاب ظلت مجـالا غامضا في إطـار علاقتهـا بـالأدب واللغة والنقد، إذ إن هـذه

النظرية تقوم على أساس علم الخطاب نشأته وتطوره، فتحليل الخطاب أيا كان نوعه وجنسه هو عبارة عن نظرية حديثة قامت على أنقاض نظريتين ، واحـدة قديمـة وأخـرى حديثة العهد، الأولى هي النظرية البلاغية الغربية والثانية هي النظرية الأسلوبية الغربية أيضا، "ذلك أن نظرية تحليل الخطاب هي أكثر تطورا وأشد حساسية تجاه النص الذي لم تستطع نظرية البلاغة ونظرية الأسلوبية أن تتعامل معـه علـى نـحـو كـلـي إثنوغراف* عميـق". ومازال تحليل الخطاب يضفي ظلالا جديدة على مصطلح النقد، أو مفهـوم النقد، وإن ظهرت كلمة التحليل في الحقول المجاورة كالنحو فإن التحليل يشير إلى مفهـوم علمـي تطبيقـي أكـثـر مـن إشـارته إلى حقـل يتعامـل مـع العاطفة كالأدب ومع استخدام خاص للغـة وهـو اللغة الشعرية، وهذا ما ينطبق على الأسلوبية واهتمامها بخصوصية اللغة الشعرية ألفاظا وتراكيب وأساليب وصيغا، فضلا عن الوقوف عند بعض الظواهر التي تسهم في منح التركـيـب الـشعري وخـصوصيته الجماليـة كالحـذف، والاعتراض، والتقديم والتأخير والمحسنات المعنوية والتكرار وغيرهـا مـن الظواهر التي يمتاز بها الخطاب الإبداعي.

إن النص الأدبي لا تتمثل حركته الإبداعية إلا بواسطة الخيال، الذي يصنع ذاتية النص وتشكيل الفهم السليم له، لكونه يجلي وحداته اللغوية التي تؤلف شكله ووجوده، ودراسة النص تتم من خلال تحليل مستوياته المتعددة، بمعنى إن تحليل قصيدة أو خطاب شعري يستوجب وصف مختلف العلاقـات الـتـي تقـوم بـيـن المستويات المتعددة للقصيدة ، تـضـمـن هـذه المستويات إجابات متعددة لما ينطوي عليـه المركـب النـصي مـن مجموعـة عضوية متكاملة، يفهـم مجموعـه بالدراسة الدقيقة لأجزائه ووحداتـه اللغوية. ذلك أن التحليل الأسلوبي فعـل نقدي يمكن عده نوعا من المعرفة العلمية للأدب التي تهدف إلى الموضوعية والتي هي بدورها شرط فعلي لهذا النوع من التحليل. فالأسلوبية لا تتصف بالجدة إلا بإدراجها في نطاق علمي، يقـول غراهـام هـوف :"وإذا حصل فإن النتيجة يمكن أن يكون لها بعض الحق في الادعاء العلمي"، ولا يستغني أي علـم عـن الإحصاء، لأنه مفتاح وأداة منهجيـة أساسية تؤدي بنـا بعـد كـل دراسـة إلى حصر الخصائص الألسنية العامـة لنسيج النص، بعـد عمليـة ملاحظـة وتشخيص وتقييم الظاهرة الأدبيـة. يقـول المسدي : "للعملية الإحصائية فـضـل بـارز في عقلنة

المنهج النقدي"، ومعلوم أن النقد على اختلاف مناهجـه لا يستطيع وضع قوانين مفصلة لتقدير الأساليب، وذلك بسبب تنوع العواطف والموضوعات الأدبية أولا ، ولكثرة الأشكال التي يبتكرها المبدع في الجمل والفقرات ثانيا تحول دون إحصائها وإدخالها تحت مقاييس مضبوطة وثابتة ، فلذلك تطبق الأسلوبية الإحصاء والكم لقياس نسبة تردد العدولات والانزياحات في اللغة باعتبار تلك اللغة شعرية في النص الأدبي. فالانزياح الأدبـي يعـرف كميا بالقياس، واللغة الشعرية تصبح قابلة للقياس وللتشخيص الإحصائي في الدراسات الأسلوبية التي تتبع بصمات الشحن في الخطاب عامة، ولا يكون لها ذلك إلا بوصف الظاهرة الأدبية، وتمييز سماتها اللغوية فيها، ثم تحليلها ، وتأويلها بعد إظهـار نسب ومعدلات تكرارها، لتنتهي إلى إظهار السمات الأسلوبية للنّص المدروس، وتعتمد في ذلك على أدواتها الإجرائية ، مستثمرة معارف اللغة وحقولها في وصف البنى السطحية والبنى العميقة في الخطاب، لتحديد الظـاهـرة الفيزيائية لتنتهـي بتحديد النظـام الـعـام للخطاب، والوصول إلى المؤثرات الموضوعية للنص، يقول سعد مصلوح : إن التشخيص الأسلوبي الإحصائي يمكن اللجوء إليه حين يراد الوصول إلى مؤثرات موضوعية، في فحص لغة النصوص الأدبية".

ولذا نجد البحث الأسلوبي ينطلق في مقاربته للنص الأدبي باعتماد مصطلحات : الاختيار، التركيب والانزياح. فالاختيـار مـرتبط بالأسلوب وهو بمثابة حد فاصل بين الجمالي وغير الجمالي، فالكلام لا يمكنه اكتساب صفة الأسلوبية إلا حين تتحقق فيه جملة من الظواهر أو المسالك التعبيرية لتأدية المعنـى المـراد مـن قبـل المبـدع، ومـن ثـم يكـون الأسلوب اختيارا إذا أخرج الكاتب العبارة عن حيادها ونقلها من درجة الصفر إلى خطاب متميز، مراعيا النواحي الصوتية والدلالية والصرفية.

أما التركيب فهو الآخر ركن فاعل في عملية الخلق الأدبي، إذ به تتحقق الأدبية في النص، ذلك أن "الجمال في النص الأدبي يعود إلى العناصر البنائية المتضافرة فيما بينها ، لا إلى عنصر وحيد بعينه " ، فهو يقوم بعملية نظم الكلمات المختارة في النص الأدبي مستندا في ذلك لعمليتي الحضور والغيـاب * ، وطريقة التركيب اللغوي للخطاب الأدبـي هـي الـتي تمنحـه كيانه وتحدد خصويته، لذلك كان ميشال ريفاتير" يركز على الخطاب في ذاته ويعـزل كـل مـا يتجاوزه مـن مقاييس اجتماعية وذاتية، فالخطاب

الأدبـي هـو تـركـيـب جـمـالي للوحدات اللغوية تركيبـا يتـوخي في سياقاته الأسلوبية معاني النحو، وبالتالي تظهر درجة الأدبية التي هي سـر مـن أسـرار خصائصه التركيبية البنيوية والوظيفية"".

أما الانزياح فهـو مـؤشـر نـصـي علـى أدبيـة الـنص وشعريته، باعتبار أن الخـروج عـن النسيج اللغـوي الـعـادي في أي مستوى مـن مـستوياته الـصوتي والتركيبي والـدلالي البلاغي يمثل في حد ذاتـه حـدثا أسلوبيا". والانزياح في غالبيته مرتبط بالنص أو الرسالة، ولذلك عرف الأسلوب بأنه انزياح أو انحراف عن قاعدة ما، كما أنه "حدث لغوي يظهر في تشكيل الكلام وصياغته". وبهـذه الإجـراءات المعتمدة في عملية التحليـل الأسـلوبي اعثيـرت الأسلوبية منهجـا نقـديا كغيرهـا مـن المناهج النقدية، حيث أنها تسعى جاهـدة لأن تتتبع الظـاهـرة اللغوية والأدبيـة بالاحتكام إلى البعـد اللغـوي بحيث لا تتكابر عن استلهام النظرية الألسنية في إضاءة النص وفحص مستوياته المتعددة بغية الوقوف على الطوابع الأسلوبية التي تميـز هـذا الخطاب أو ذاك من الخطابات المتماثلة أو المغايرة والتي تخصه بملمح متميز يحقـق لـه أدبيتـه وينـحـو بـه منـحـى شـعريا، لا تكون فيـه اللغـة مجـرد قنـاة توصيل وإبلاغ فحسب، وإنما تكون مفعمة ومشحونة بالكثافة الشعورية مما يعكس شخصية مبدع العمل الأدبي.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا كانت المناهج الأسلوبية بآلياتها وإجراءاتها وضوابطها تهـيء المناخ المناسب للدخول إلى عوالم النص، فإن انفراد الأسلوبية وحدها بهذا العب لا يخلو من المخاطر، خاصة مع تفرع الاتجاهات اللسانية وتنوع أنماطها وطرائقهـا مـمـا قـد يطـرح إشكاليات كثيرة في مقاربة النص، فالتفات معظم الأسلوبيين إلى الظواهر المائزة في النص يكون رهنـا بخيرتهم اللغوية أو الأسلوبية، وهذا ربما ما يجعلهم لا يوفقون بين ما هو لغوي وغير لغوي في النص، وهذا ما جعل صلاح فضل يعـده أمـرا مقلقـا خاصـة عنـدمـا عـده مـظهـرا مـن مـظـاهـر أزمـة الـشعرية المعاصرة يقول : "فالبحث الألسني المحدث قد أدرك درجة عالية من التقدم في التعرف العلمـي علـى الأبنية المادية واللغوية للنص الأدبي، في مقابل تواضع معرفة واختبار بقية الأبعاد التصويرية والتخييلة والجمالية المكونة لهذا النص والتي تعد حاسمة في تحديد خواصه الشعرية"

وعليـه يمكـن القـول بـأن قراءة النص الأدبي تكـون قـراءة أسلوبية نقدية، وذلك عندما تتعامل مع التراكيب الجمالية والفنية الموجودة فيه ، والتعامل مع التراكيب اللغوية للوصول إلى الدلالات، واستخراج المعنى، ليصل الناقد بذلك إلى دراسة واعية للنص. 

5. البنية والأسلوب :

 1.5. البنية :

لغة : مشتقة من الفعل 'بني ومن دلالته التشييد والعمارة كل ما تعلق بالبناء ، "فالبني نقيض الهدم، بني يبني بناء وبنيا ، وجمعه بنيات"، ولذلك فالبنيات تقـوم بالجمع والتأليف والتلاحم بين العناصر مهما كانت أشكالها وصيغها.

اصطلاحا :

إن البنية Structure عبارة عن علاقات متحولة بين عناصر تنتمي لـذات المجموعة تحتوي علـى قـوانين مخصوصة، كما تتمتع باستقلالية تامة في نظامها، وهي - البنية - في حد ذاتها "مفهوم يشير إلى النظام الذي تتحد كل أجزائه بمقتضى رابطة تماسك تجعل من اللغة مجموعة منتظمـة مـن الوحدات أو العلامات التي تتفاضل ويحدد بعضها بعضا على سبيل التبادل" ، وهـذه البنية تحكمها ثلاثة خصائص ألا وهي : الجملة، والتحويلات والضبط. فالجملة أو كما تُعرف بالشمولية أيضا Totalité تعبر عن التماسك الداخلي للوحدات المكونة للبنية ككل، فهي كاملة بذاتها مجتمعة ، وليست بتشكيل عناصرها المتفرقة، فهي كالخلية الحية تنبض بالحياة والتجدد، فالبنية لا تظهر من خلال عناصرها في شكل انفرادية أحادية ، وإنما عبر علاقات وروابط تجمع العناصر بعضها داخل الكل، في ذلك مستقلة عن ما هو خارجها، أي غير خاضعة إلا لما هو داخلي.

وفيما يتعلـق بـالتحويلات Transformations فإنهـا تظهـر مـن ورائهـا الطبيعة المتحولة للبنية، حيث لا تنتظم في شكل ثابت بل تظل في التحول الـدوري بسبب علاقات عناصـرها ، لكـن هـذا التحـول يـتـم وفـق قـوانين وضوابط خاصة تتبع داخل البنية. وبعد التحـول يـأتي الضبط الذاتي -Auto réglage الـذي تـسـتقـر عـبره البنيـة في شكل جديـد مـضبوطة في شكل مختلف له قوانينه الخاصة، بهذا فبعد كل تحول تقوم البنية بإعادة ضبط

عناصرها في علاقات جديدة نابعة من صميمها وداخلها بهذا ينغلق نظامها من جديد عن مختلف الأنظمة الخارجة عنه محققا استقلاليته من جديد ومما سبق يظهر لنـا بـأن البنية تمثل وحدة رئيسة في تشكيل أي عنصر، فالعناصر اللغوية المشكلة للنص تخضع لقوانين البنية، الـتي مـن ورائها ظهر اتجاه البنيوية الذي يعتمد في دراسته على هذه البنية والتي تساهم أيضا في تركيب المعنى العام للعمل الأدبي وما ينقله إلى المتلقي.

 2.5. البنية نواة قرائية في النص الأدبي :

باتت البنية تحتل موقعا هاما في نسيج النص الأدبـي شـعره ونثره، وذلك على مستوى الكلمة المفردة أو التركيب أو النص ككل، فالبنية "مجموعة علامات أو أنسقة العلامات المضمرة في الأثر الأدبي باعتبـار هـذا الأخير مكتفيا بذاته"، حيث لا يمكننا القراءة إلا عبر احترام القوانين التي تقدمها البنية، فجملتهـا أو شموليتهـا تجعلنـا نـقـرأ الـنص ككـل باعتباره كيانـا واحـدا مـتلاحم الأجـزاء على المستوى الصوتي والصرف والتركيبي، كما تمنحنا خاصية التحويل إمكانية ملاحظة تحول البنية أثناء القراءة، حيث نعيـد ضبطها كـل مـرة حسب قوانين خاصة، بهذا فالبنية في ذاتها تعتبر أساسا لقراءة النص الذي يعد بنية كبرى، تتقاطع بداخله عدة بنيات صغرى وتتحد في علاقات مقدمة شكل النص العام، بهـذا فـالنص الأدبـي علـى اختلافـه يعـد "بنيـة ضـمن بنيـة أشمـل في اللغة تحكمـه قـوانين وشيفرات وأعـراف محددة"، وبذلك كـان هـذا النص يتميز بأدبية فنية تحكـم نسقه اللغوي والتي تجعله متميزا عن غيره مـن النصوص انطلاقا من هذه الأدبية، وكما أنها أيضا تبقي النص خاضعا من جهة أخرى بحكم مادته اللغوية لقوانينها التشكيلية.



لقراءة المزيد اضغط هنا 


تعليقات

التنقل السريع