أولا/مفاهيم الشعرية
تمهيد:
لقد كانت البلاغة بحاجة إلى أرضية صالحة لمعالجة النصوص الأدبية، وخاصة
المعالجة النقدية، وإذا كانت الصورة الشعرية بمفهومها القديم قد فقدت صفة
الهيمنة على الشعر باعتباره تفكيرا بواسطة الصور، فإنّ الصورة اليوم أصبحت
وسيلة من وسائل اللّغة الشعرية المتعددة، وعلى هذا الأساس تبلورت مجموعة من
المفاهيم، تندرج ضمن قوانين الأعمال الأدبية، هذه المفاهيم اجتمعت لتحمل
مصطلحا واحدا هو الشعرية La Poètique،
هذا المصطلح الزئبقي الذي عرف مسالك عدّة منذ ظهوره مع أرسطو إلى يومنا
هذا، وإذا كانت الشعرية هي البحث في قوانين الخطاب الأدبي، فإنّه لايجب
علينا الاكتفاء بهذا الطرح وإلاّ سنغيّب مظاهر أخرى تتجلى من خلال هذا
الخطاب، وهي قضايا مهمة يجب أن تطرح للبحث.
وبهذا فإنّنا لا نستطيع - على حدّ رأي الشكليين-أن نمنحها فقط مهمة "استنباط قوانينالأعمال الأدبية"[1]،وقد دُرست في هذا الصدد عدة قضايا؛ منها علاقة القراءة أو التلقي بالشعرية،
حيث وجب منح فرصة للقارئ ليجعل من الأثر الأدبي نصا آخر، فهناك فرق بين الأثر
الأدبي والنص؛ فالأثر هو الإنتاج الأصلي للكاتب، أمّا النص فهو القراءة
الثانية لذلك الأثر، ولهذا فإنّ الشعرية لم ترتبط بالأثر فقط، بل تجاوزته إلى
النص أو القراءة الثانية للنتاج الأدبي.
[1]- حسن ناظم، مفاهيم الشعرية، المركز الثقافي العربي للنشر، ط1، بيروت، 1994، ص6.
فالقارئ هنا لا يُقلّ من موضوعية الشعرية وقيمتها، وذلك باعتباره قارئا لا يخرج عن النص الأدبي بل هو جزء منه ويمكن أن يتماهى فيه، فالشعرية إذن هي محاولة البحث في القوانين التي توجّه العمل الأدبي وجهة لغوية، أي أنّها تمنحه صفة الأدبية، باعتبار أن هناك من يفرّق بين الشعرية والأدبية؛ فهذه الأخيرة ترتبط بالأثر الأدبي، بينما الشعرية فعلاقتها تتجاوز الأثر إلى النص أو القراءة الجديدة للإنتاج الأدبي الأصلي، وذلك لأنّ الشعرية ـ حسب مدرسة النقد الحديث ـ تخضع لنظرية المحايثة في استنباط القوانين الأدبية لنصّ ما، وهم بهذا يجرّدون النص الأدبي من السياقات الأخرى (الكاتب والظروف المحيطة بإنتاج النص.....)، يقول الغدامي في هذا الصدد " فجاءت مدرسة النقد الحديث لتنظر إلى النص على أنه عمل مغلق وعزلته عن مؤلفه وعن عصره، وجعلت العمل وحدة فنية مستقلة تمتلك خصائصها الذاتية التي لا تشترك فيها مع أي عمل آخر، حتى وإن كان من المؤلف نفسه"[1] وهكذا كانت الشعرية لا تقتصر على الأثر الأدبي فقط بل إنها ترتبط بما عداه من قراءات أخرى، فمصطلح الشعرية وكأيّ مصطلح لم يقتصر على مفهوم واحد، بل عرف تحولات عدّة، فكل يرى أنّ الشعرية تحمل نظرية معينة، فلا يمكن اعتبارها مجرد إعادة صياغة لما جاء به أرسطو في كتابه (فن الشعر).
[1]- عبد الله الغدامي، الخطيئة والتكفير،
المركز الثقافي العربي، ط3، المغرب، 2006، ص28.
1- الشعرية الغربية:
الشعرية من المصطلحات التي عرفت رواجا كبيرا في النقد المعاصر، وهو مصطلح غربي يمكن القول عنه أنه قديم حديث، وقد جاءت الشعرية إثر رغبة النقاد الغربيين في إرساء قواعد أدبية ونقدية جمالية، إلا أن موضوع الشعرية لم يتحدد بدقة إلا في بدايات القرن العشرين، ويمكن اعتبار الأديب الفرنسي بول فاليريPaul Valéry أبا الشعرية انطلاقا من مقولته" كل كتابة أدبية هي شعرية"[1]،نفهم من هذا القول أنّه جمع بين الشعر والنثر.
[1] -فيصل الأحمر: نبيل دادوة، الموسوعة الأدبية، ج2، دار المعرفة للطباعة والنشر، الجزائر، 2008، ص155.
وقد أيّد هذا الرأي الكثير من النقاد وفي مقدّمتهم الشكلانيون
الروس، وخاصة رومان جاكبسون الّذي يمثل انطلاقة الشعرية
الحديثة منذ 1919، وذلك من خلال تحديده لموضوع الشعرية، وهذا
ما فحس رأيه إنّ الموضوع الرئيسي للشاعرية هو تمايز الفن
اللغوي واختلافه عن غيره من الفنون الأخرى وعمّا سواه من
السلوك القولي وجاء هذا في حديث جاكبسون عن تطوير مفهوم أدبية
النص من خلال دراسته لمقوّمات الرسالة الشعرية ووظائفها، ونراه
يركّز هنا وبصورة خاصة على الرسالة التي تؤدي وظيفة الشعرية،
فالمرسل عندما يبعث خطابا مستخدما اللغة، فإنه يعتمد على اللغة
كوسيلة أولى، وعلى ما تحمله اللغة من تقسيمات، أي دال ( (signifierومدلول (signified)، ويرى أن
"اللغة تحمل عدة وظائف منها الوظيفة الشعرية التي تظهرفي
الرسالة بين المرسل والمستقبل"[1]ويبحث فيها عمّا يجعل هذه الرسالة اللغوية عملا فنيا،فاللغة
بالنسبة لجاكبسون تؤدي مجموعة من الوظائف تكون مشكلة لعملية
التواصل، ورغم أنّه اهتمّ بالخطاب الشعري فهذا لأنّ وظيفة
الشعرية تكون فيه أكثر سلطة، لكن دون إهمال الوظائف الأخرى،
فعند جاكبسونأن البنية اللفظية للرسالة تتعلق بالوظيفة
المهيمنة إذ يقول:" إن استهداف الرسالة..هو ما يطبع الوظيفة الشعرية للغة،
وال يمكن لهذه الوظيفة أن تدرس دراسة مفيدة إذا ما أغفلنا
المشكلات لعامة للغة، ومن جهة أخرى يتطلب التحليلالدقيق للغة
أن تأخذ جديا بعين الاعتبار وليس الوظيفة الشعرية هي
الوظيفة الوحيدة لفن اللغة، بل هي فقط وظيفته المهنية
والمحددة، مع أنها لا تلعب في النشاطات اللفظية الأخرى سوى
دور تحليلي وعرضي"[2]، كما نراه يؤكّد في مواضع أخرى أنّ الوظيفة الشعرية لا تقتصر
على الشعر فقط، بل توجد في أنواع الفنون الأخرى، لأنّ الشعرية
تشير إلى كلّ علم يبحث في قوانين إنتاج الأدب بعامة.فالنصّ
الأدبي إذن عند جاكبسون هو الذي يميّز الوظيفة التي تقوم بها
الشعرية بعيدا عن أيّ شيء آخر يقع خارجه (النص).
[1]- رومان جاكبسون، قضايا الشعرية،
ترجمة محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال، الدار البيضاء،
1988، 24.
تعليقات
إرسال تعليق